توجيه قوله تعالى
(وما يخادعون.. وما يخدعون)
)يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩(([1])
هل اللهَ
يُخَادَع، وهل المؤمنون ينخدعون، وهل الله يخدع، وإن جاز فهل يكون المخادع اسمًا
له، وله يخدع المؤمنون، وكيف تكون المخادعة، ولماذا اتفق القراء على لفظ (يخادعون)
الأول ، واختلفوا في لفظ (يخادعون) الثاني
أولاً: معنى المخادعة
وَيُقَالُ : فُلانٌ خَادِعُ الرَّأْي؛ أَي مُتَلَوِّن لا يَثْبُت عَلَى رَأْيٍ
وَاحِدٍ([2])،
ولفلان خُلُقٌ خادِعٌ، إذا تخلَّق بغير خُلُقه وهو من الباب؛ لأنه يُخفِي خلاف ما
يُظهره ([3])
. ويقولون: دينارٌ خادع، أي ناقص الوزْن. فكأنَّه أرَى التَّمامَ وأخفى
النُّقصانَ حتَّى أظهره الوزنُ
وقال أبو مسلم البهلاني في قصيدته الاستنهاضية (تلك البوارق حاديهن
مرنان)
بيض العمائم لا تجدي اذا انكدرت .. بيضُ القلوب وللايمانِ عنوان
طهر ثيابك واغسل راحتيك فها......تيك المطامعُ أوساخٌ وأدرانُ
فهي إظهار ما يوهم السلامة والسداد وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير
والتخلص منه فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة([4])
علاقة هذه الآية بما قبلها
هذه الآية موضحة ومبينة لما قبلها، قال في مفتاح العلوم: ومن أمثلة الإيضاح
والتبيين قوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم
بمؤمنين يخادعون " لم يعطف يخادعون على ما قبله، لكونه موضحا له ومبينا من
حيث أنهم حين كانوا يوهمون بألسنتهم أنهم آمنوا وما كانوا مؤمنين بقلوبهم قد كانوا
في حكم المخادعين([5])
كيف يخادع المنافقون اللهَ والذين آمنوا
كيف
يخادعون الله تعالى ومخادعة الله تعالى ممتنعة؛ لأنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر ...
ولايصح أن يخادع. وهل ينخدع المؤمن؟
نعم
يجوز للمؤمن أن ينخدع فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ غِرٌّ
كَرِيمٌ وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ )([6]) لأن من علامات المؤمن؛ قلة التفطن لطرق الشر وقد
يخدع لصدق نيته، لكنه ينخدع مرة ولا ينخدع الثانية فقد قال النبي صلى الله وسلم
(..لَا يُلْدَغُ مُؤْمِنٌ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ)([7]).
وقال الله تعالى معلمًا نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ
رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ)([8])
وقال
الشاعر في انخداع الكرام: واستمطروا من قريش كل منخدع ... إن الكريم إذا خادعته
انخدعا
أما
عن الله فاختلف العلماء في تفسير هذه الآية هذا
على عدة آراء وفي اختلافهم جمال وبيان للمعنى.
1-أن يذكر اللَّه تعالى ويراد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم لأنه خليفته
في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال: قال الملك كذا ورسم كذا
وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه
قوله:(إِنَّ
الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) وقوله (وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ( الأنفال 41 ) أضاف السهم الذي يأخذه الرسول إلى نفسه([9])،
2-
ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل
يخادعون الله.([10])
3-
التفريق بين الفعل (خادع) والفعل (خدع).
فقد اتفق القراء على الفعل الأول (يخادعون الله والذين آمنوا) واختلفوا
في الثاني (وما يخدعون) فمنهم من قرأ (وما يخادعون) ومنهم من قرأ (يخدعون) قال أبو
البقاء: قال أبو البقاء: يقال خادع إذا لم يبلغ مراده وخدع إذا بلغ مراده ولا بد
للمشترك فيه من اثنين مغايرين بالذات بخلاف الخدع فإنه يكفي فيه المغايرة بين
الفاعل والمفعول بالاعتبار كما في معالجة الطبيب نفسه وعلم الشخص بنفسه، والمذكور
صريحا في باب المفاعلة فعل الفاعل فقط وأما فعل المفعول فهو مدلول الكلام([11]).
ولذلك كان ختام الآية (وما يخدعون إلا أنفسهم) أي
وما تَحُلُّ عاقِبَةُ الخِداعِ إلا بِهِم،
وأنهم في الحقيقة خدعوا أنفسهم، وإما قراءة (وما يخادعون إلا أنفسهم ) من باب:
عالج الطبيب نفسه.
وكيف تكون مخادعة الله ومخادعة الممؤمنين لهم في الدنيا؟
ومخادعةُ الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أحكامَ المسلمين في الدنيا،
ومخادعةُ المؤمنين لهم كونُهم امتَثلوا أمرَ الله تعالى فيهم([13]).
أما مخادعة الله والمؤمنين لهم في الآخرة
فقد قال الله تعالى (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا
وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى
جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ
مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
وذلك أن الله تعالى يعطي المؤمنين نورًا على قدر أعمالهم يمشون به على
الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورًا خديعةً لهم، وهو قوله عز وجل "وهو خادعهم"
(النساء -141) فبيناهم يمشون إذ بعث الله عليهم ريحًا وظلمة فأطفأت نور المنافقين،
فذلك قوله: "يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم
وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا" (التحريم -8) مخافة أن يسلبوا نورهم
كما سلب نور المنافقين([14]).
فمخادعة
الله لهم (إملاء وجزاء) فلا ييسمى الله بالخادع، لكنه سمى إملاءه وعقابه لهم
مخادعة كما قال الشاعر:
ألا
لا يجهلن أحد علينا....فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فجعل
الشاعر انتصاره جهلاً على وجه المقابلة
فعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة ، وتسمية الفعل الثاني
باسم الفعل الأول المسبب له([15])
خلاف القراء في الآية
قرأ الكوفيون وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بإسكان الخاء والقصر (وما يخدعون)
وقرأ باقي القراء بفتح الخاء والمد (وما يخادعون)
وحجة من قرأ بالمد (يخادعون) إجراء الثاني على لفظ الأول طلبًا للمشاكلة.