-->
U3F1ZWV6ZTIxMjczMTA0OTU1X0FjdGl2YXRpb24yNDA5OTQ5MzAyNzQ=
recent
أخبار ساخنة

المنحة الآلهية في شرح وتوجيه القراءات القرآنية (القلب والعقل والفؤاد)


 

الفرق بين القلب والعقل والفؤاد واللب والصدر

)فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ (([1])

لم يفرق علماء اللغة ولا علماء التفسير بين القلب والعقل والفؤاد، ولم يضعوا لكل واحد منهم حدًا أو توصيفًا، قال الأَزهري ورأَيت بعضَ العرب يُسَمِّي لحمةَ القَلْبِ كُلَّها شَحْمَها وحِجابَها قَلْباً وفُؤَاداً قال ولم أَرهم يَفْرِقُونَ بينهما([2]).

 إلا إنهم في تفاسيرهم  أطلقوا كل واحد منهم على الآخر على حسب السياق، ويفهم من بعض التوصيفات لهذه المسميات ما حدُّ كلِّ واحدٍ منهم. فقال الفراء: في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ...)([3]): أي عقل.وقال الكفومي: الفؤاد القلب وقيل باطن القلب وقيل هو غشاء القلب والقلب حبته وسويداه([4]).

وقال المناوي: الفؤاد كالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفاؤد أي التوقد([5]).

وقال الليث: سمي الفؤاد فؤاداً لتفؤُّده، وافتأد القوم، إذا أوقدوا نارا، والمُفْتَأَدُ موضع الوقود([6]).

إضاءات لفهم الفرق بين القلب والعقل والفؤاد

أولاً: موضع القلب

ذكر الله سبحانه وتعالى مكان القلب ولكنه لم يذكر مكانًا للعقل ولا للفؤاد، فقال (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) إذن القلب داخل الصدر، والصدر حاوٍ له.

ثانيًا: التفريق بين القلب والفؤاد

جاء القلب والفؤاد في جملة واحدة في قوله تعالى (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وفي حديث النبي e : ( أَتاكُم أَهلُ اليَمَنِ هم أَرَقُّ قُلوباً ، وأَلْيَنُ أَفْئِدَةً ) فوصف الفؤاد بوصف ووصف القلب بوصف آخر ففرق بينهما.فجعل موضع الرقة القلب، وموضع الفؤاد الليونة ، فلما لان الفؤاد رق القلب.فكأن الفؤاد هو المتحكم في رقة القلب وقسوته.

ثالثًا: التفريق بين القلب والعقل

·     عرف العلماء العقل فقالوا: العِلمُ بصفاتِ الأشياءِ من حُسنِها وقُبحِها وكمالِها ونُقصانِها أو هو العِلمُ بخيرِ الخَيرَيْن وشَرُّ الشَّرَّيْن وذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "ما كَسَبَ أحدٌ شيئاً أَفْضَلَ منْ عَقْلٍ يَهْدِيه إلى هُدىً أو يَرُدُّه عن رَدىً " . وهذا العقلُ هو المَعنِيُّ بقولِه عزَّ وجلَّ : " وما يَعْقِلُها إلاّ العالِمون " وقَوْله تَعالى : " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهمْ لا يَعْقِلون " وقوله تعالى (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) إذا العقل هو مادة الفهم والإدراك وأداة اتخاذ القرار في الجسد، وأن القلب مركز العقل قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)([7]): وذلك أنّ القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها([8])

·     قدم الله في القرآن القلب على البصر والسمع فقال (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) فهو سائق هذه الأدوات ومالكها،  وآخر الفؤاد عن السمع والبصر فقال (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وقال تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ([9])، وقال تعالى (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) ([10])قال  الألوسي في روح المعاني: وأصل الصغو- كما قال الراغب- الميل يقال: صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغت الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه([11])، فاستخدم لفظ الصغو الذي هو أداة الفؤاد والذي هو سبب في استمالته،  إذن فالسمع والبصر هي أدوات الفؤاد ومداخله التي تبعث الإحساس فيه وتدعوه للتفكر والإدراك ولذلك قدمت عليه.

وقال تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ)([12]) أي تصل إلى موضع الإحساس والشعور وهى منتهى ما يصل إليه إليه الأنسان من الإحساس والإدراك. قال البغوي([13]): أي التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب.وقال الزمخشري: يعنى أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه([14])

وفي قوله تعالى (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)([15]) قال صاحب الكشاف: أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش. ونحوه قوله تعالى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)([16]) أى جوّف لا عقول فيها ... وذلك أنّ القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها

رابعًا: توصيف القلب والعقل والفؤاد والصدر واللب

أذن توصيف الأمر في (القلب والفؤاد والعقل) فالقلب كصاحب جواد وعليه فارس فالجواد هو الفؤاد صاحب العاطفة التي تنطلق بلا رادع لها، والفارس هو العقل الذي يكبح جماح هذا الجواد فأيهما كانت له الغلبة غلب؛ قال الرازي رحمه الله: فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه عبر عنهما بأصبعي الرحمن والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه فإن شاء أمسكه وإن شاء أسقطه فههنا أيضاً كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى والقلب مسخر لهاتين الداعيتين([17]).

 فإن غلب الفؤادُ العقلَ كما في قصة زليخة؛ غلبتها عاطفتها فنزلت من عرشها وملكها لتقول لمولاها يوسف عليه السلام (هَيْتَ لَكْ) وغلب العقلُ فؤاد يوسف فقال (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَاي).

 أو كما في قصة عبد الرحمن القس وسلامة قالت له ( "أنا والله أحبك!".

فقال: "وأنا والله الذي لا إله إلا هو".

قلت: "وأشتهي أن أعانقك وأقبلك!".

قال: "وأنا والله!".

قلت: "فما يمنعك؟ فوالله إن الموضع لخالٍ!".

قال: "يمنعني قول الله عز وجل: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فأكره أن تحول مودتي لك عداوة يوم القيامة". إني أرى {بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] يا حبيبتي، وهو يمنعني أن أكون من سيئاتك وأن تكوني من سيئاتي.

فمن غلبت عاطفتُه عقلَه يسمى (مجنونًا) كقيس العامري

مر قيس بزوج محبوبته ليلى في أحد أيام الشتاء.. وكان ذلك الزوج يجلس قريباً من النار يستدفئ.. فقال له:

بِرَبِّكَ هَل ضَمَمتَ إِلَيكَ لَيلى...قُبَيلَ الصُبحِ أَو قَبَّلتَ فاها

وَهَل رَفَّت عَلَيكَ قُرونُ لَيلى... رَفيفَ الأُقحُوانَةِ في نَداها

كَأَنَّ قُرُنفُلاً وَسَحيقَ مِسكٍ ..وَصَوبَ الغادِياتِ شَمِلنَ فاها

فقال الزوج: اللهم إذا حلّفتني.. فنعم.

لم يصرخ المجنون ولم يبك.. ولكنه أقبل على النار ليقبض على الجمر بكلتا يديه وما فارقت يداه الجمر الملتهب حتى سقط مغشياً عليه، فكانت النار في فؤاده أحر منها في يده.

ومن غلبه العقل سمي (مفؤودًا) أي مريض بالحب كما في قراءة (قد شَعَفَها حُبّاً) قال أبو زيد: أي أمرضها وأذابها، فربما تحرق قلبه وتحرق ما حوله من شدة حرارة الفؤاد، كما قال ديك الجن:

وَدَّعْتُها ولَهِيبُ الشّوْقِ في كَبِدي .. والبَيْنُ يُبْعِدُ بينَ الرُّوحِ والجسَدِ

وَدَاعَ صَبّيْنِ لَمْ يُمْكِنْ وَدَاعُهُما ... إِلاَّ بلَحْظَةِ عَيْنٍ أَوْ بَنانِ يَدِ

وَدَّعْتُها لِفِراقٍ فاشْتَكَتْ كَبِدِي... إِذْ شَبّكَتْ يَدَها مِنْ لَوْعَةٍ بِيَدِي

وحاذَرَتْ أَعْيُنَ الواشِينَ فانْصَرَفَتْ... تَعَضُّ مِنْ غَيْظِها العُنّابَ بالبَرَدِ

فكانَ أَوَّلُ عَهْدِ العَيْنِ يومَ نَأَتْ... بالدَّمْعِ آخِرُ عَهْدِ القَلْبِ بالجَلَدِ

جَسَّ الطّبيبَ يَدي جَهْلاً فقلتُ لهُ... إِنَّ المَحَبّةَ في قَلْبي فَخَلِّ يَدي

ليسَ اصْفِراري لِحُمَّى خامَرَتْ بَدَني... لكنَّ نارَ الهوى تَلْتَاحُ في كَبِدِي

فقال هذا سَقَامٌ لا دَواءَ لَهُ... إِلاَّ بِرُؤْيَةِ مَنْ تَهْواهُ يا سَنَدِي

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (ماَ رَأيَتُ لِلمُتَحَابِينَ مِثَل النَكاَح)([18]) فإن لم يستطع فقال النبي صلى الله  عليه وسلم: مَن عشِقَ، فعَفَّ فمات؛ فهو شَهيدٌ. وفي رِوايةٍ: مَن عَشِقَ وكتَمَ، وعفَّ وصَبَرَ؛ غَفَرَ اللهُ له وأدْخَلَه الجنَّةَ([19])، وهذا الذي يسمى العفاف غلب عقله قلبه فامتلك قلبه، فإن مات بهذه الحُرَقِ مات شهيدًا كما في الحديث.

خامسًا: اللُّبُ

فقال الراغب اللب العقل الخالص من الشوائب سمي به لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء وقيل هو ما زكا من العقل فكل لب عقل ولا عكس ولهذا علق الله الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب نحو ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)([20])

سادسًا: الصدر

هو الجامع لكل هذا والحاوي له ويعني الحالة المزاجية للإنسان ولذلك قال الله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) فعبر عن الحالة المزاجية بضيق الصدر، وقال تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)([21]) قال ابن كثير: يَعْنِي أَمَا شَرَحْنَا لَك صَدْرك أَيْ نَوَّرْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ فَسِيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا كَقَوْلِهِ " فَمَنْ يُرِدْ اللَّه أَنْ يَهْدِيه يَشْرَح صَدْره لِلْإِسْلَامِ " وَكَمَا شَرَحَ اللَّه صَدْره كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعه فَسِيحًا وَاسِعًا سَهْلًا لَا حَرَج فِيهِ وَلَا إِصْر وَلَا ضِيق([22]) .

وقال تعالى (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُو)([23])قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي نُفُوسِهِمْ([24]).


([1]) سورة البقرة الآية 10

([2]) لسان العرب لابن منظور 1/685

([3]) سورة ق الآية 37

([4]) كتاب الكليات لأبي البقاء الكفومي 1/1104

([5]) التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي ، 1/565

([6]) تهذيب اللغة 4/484

([7]) سورة القصص الآية 10

([8]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 3/395

([9]) سورة الأحقاف الآية 26

([10]) سورة الأنعام ال آية 113

([11]) روح المعاني للألوسي 4/252

([12]) سورة الهمزة الآية 7

([13]) معالم التنزيل للبغوي 8/530

([14]) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري 4/796، وانظر التفسير الكبير للرازي 32/286

([15]) سورة القصص الآية 10

([16]) سورة إبراهيم الآية 43

([17]) التفسير الكبير للرازي 13/121 والتفسير الكبير للرزاي 24/581

([18]) الجامع الصغير 7343

([19]) تخريج زاد المعاد 4/253 وفيه ضعف

([20]) سورة البقرة الآية 269

([21]) سورة الشرح الآية 1

([22]) تفسير ابن كثير 19/199

([23]) سورة العاديات الآية 10

([24]) تفسير ابن كثير 10/600

الاسمبريد إلكترونيرسالة