بسم الله الرحمن الرحيم
الكنز المدفون في الانتصار لقراءة نصب "كن فيكون"
كثيرًا ما يتجرأ النحاة على أصحاب القراءات ويخطئون القراء جريًا على قواعدهم، وقد خطأ العلماء قراءة ابن عامر بنصب "كن فيكون" على اعتبار المعنى وما تؤول إليه القرءاة حتى قال الإمام مكي بن طالب في كتابه الكشف: ووجه النصب مشكلٌ ضعيف، وذلك أنه جعله جوابًا بالفاء للفظ "كن" إذا كان لفظه لفظ الأمر، وإن كان معناه غير الأمر فهو ضعيف، فخطأه على كلا الوجهين، وذكر الإمام الألوسي رحمه الله في روح المعاني فقال: وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ، وعند كتابتي لتوجيه قراءة الإمام ابن عامر وهو من هو، هو إمام أهل الشام وهو أسَنُّ القراء العشرة وأقربهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجدت توجيهًا لقراءاته مدفون في فلك مشحون في بعض كتب النحو ربما لم ينتبه إليها من خطئوا قراءة ابن عامر، وفي هذا البحث اضع بين أيديكم ما توصلت إليه في الانتصار لقراءة الإمام ابن عامر في نصبه للفعل " فيكون" الواقع بعد الفاء، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل في موزاين حسناتنا يوم القيامة فهو ولي ذلك والقادر عليه.
(كُنْ فَيَكُونُ..كُنْ فَيَكُونَ)
(بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ
وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ)([1])
قرأ ابن عامر بالنصب (كُنْ
فَيَكُونَ) في أربعة مواضع وهي في البقرة
قوله (...فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117 وَقَالَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ...)([2])
وقوله بآل عمران الموضع الأول (...فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 47 وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ...)([3])
وقوله بسورة مريم (...فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 35 وَإِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)([4])
وقوله بسورة غافر (...فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 68 أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ)([5]).
وقرأ هو والكسائي في
موضعين بالنصب وهما في سورة النحل قوله (...ٍأَنْ
نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40 وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مَا ظُلِمُوا)([6])
وقوله بسورة يس (...أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ...)([7])
واتفق الجميع على رفع
موضعين الثاني من آل عمران وهو (...فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 47
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ)([8])
وموضع الأنعام وهو (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ..)([9])
المواضع الثمانية التي ورد فيه لفظة (كُنْ فَيَكُونْ) هي:
1-
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 117
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ)([10])
2-
(قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 47
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)([11])
الموضع الأول
3-
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 59
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)([12])
الموضع الثاني
4-
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ)([13])
5-
(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 40
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)([14])
6-
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ
وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 35
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)([15])
7-
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)([16])
8-
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا
قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 68 أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ)([17])
سبب الخلاف بين العلماء
هل الفاء سببية واقعة في
جواب الطلب، أم إنها استئنافية ولا علاقة لما قبلها بما بعدها، أم أنها عاطفة تعطف
ما بعدها على ما قبلها؟
الجمهورُ على رفع الفعل
(فيكونُ)، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ
أي: فهو يكونُ، ويُعزْى لسيبويه، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه.
والثاني: أَنْ يكونَ
معطوفاً على «يقولُ» وهو قول الزجاج والطبري. وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله
خطأً من جهةِ المعنى؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ «انتهى.
يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له؟
وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على
سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ، الثالث: أن يكونَ معطوفاً على» كُنْ «من حيثُ
المعنى، وهو قولُ الفارسي، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على» يقولُ «، لأنَّ من
المواضعِ ما ليس فيه» يقولُ «كالموضع الثاني في آل عمران، وهو: {ثُمَّ قالَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]
وقَرأَ ابن عامر/» فيكونَ
«نصبًا هنا وفي الأول من آل عمران، وهي: {لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ} [آل
عمران: 47] ، تحرُّزاً من قوله: {كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ} [آل عمران: 59]
وفي مريم: {كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي} [مريم: 35] ، وفي غافر: {كُن
فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ} [غافر: 68] ، ووافقه الكسائي على
ما في النحل ويس وهي: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . أمَّا آيتا
النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي.
وأمَّا ما انفرَدَ به
ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى
فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ، فقال ابن مجاهد:»
قرأ ابن عامر «فيكونَ» نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا
للأمر بالفاء إلا في يس والنحل، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ «، وقال في آل عمران:» قرأ
ابن عامر وحدَه: «كن فيكونَ» بالنصب وهو وهمٌ «قال:» وقال هشام: كان أيوبُ بن تميم
يقرأُ: فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ: فيكونُ رفعاً «، وقال الزجاج:» كن فيكونُ:
رفعٌ لا غيرُ «.
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ
هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وُجِد في
اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن
ذلك لا يَصِحُّ لوجهين، أحدهما: أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو:
{فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرحمن} [مريم: 75] أي: فَيَمُدُّ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه
بالفاء([18])
إذن الخلاف بين العلماء
في الرفع والنصب فمنهم من جعل الفاء في (فيكون) سببية ومنهم من جعلها عاطفة ومنهم
من جعلها مستأنفة.
فأما جمهور العلماء
فجعلها استئنافية والجملة بعد الفاء ليست متعلقة بما قبلها وجعلها بمعنى (فهو
يكون).
وأما الكسائي فجعلها عاطفة
في سورتي النحل ويس وجعلها استئنافية في المواضع الست الباقية
وأما ابن عامر فجعلها سببية
في ست مواضع وجعلها استئنافيةفي موضعي آل عمران الموضع الثاني وسورة الأنعام.
توجيه قراءة كل فريق
جمهور العلماء
احتج جمهور العلماء بأن
الفاء ليست سببية وليست واقعة في جواب الفعل "كن" وأن الأمر في "كن"
ليس على حقيقته بأمور منها:
1-
الحجة الأولى: أَنَّهُ
تَعَالَى رَتَّبَ تَكَوُّنَ الْمَخْلُوقِ عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ بِفَاءِ
التَّعْقِيبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: كُنْ مُقَدَّمًا عَلَى تَكَوُّنِ الْمَخْلُوقِ
بِزَمَانٍ وَاحِدٍ وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى الْمُحْدَثِ بِزَمَانٍ وَاحِدٍ لَا
بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا فَقَوْلُهُ: كُنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
قَدِيمًا، وَلَا جَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: كُنْ مُحْدَثًا لِأَنَّهُ
لَوِ افْتَقَرَ كُلُّ مُحْدَثٍ إِلَى قَوْلِهِ: كُنْ وَقَوْلُهُ: كُنْ أَيْضًا
مُحْدَثٌ فَيَلْزَمُ افْتِقَارُ: كُنْ آخَرَ وَيَلْزَمُ إِمَّا التَّسَلْسُلُ
وَإِمَّا الدَّوْرُ وَهُمَا مُحَالَانِ، فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ تَوَقُّفُ إِحْدَاثِ الْحَوَادِثِ عَلَى قَوْلِهِ: كُنْ.
2-
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ:
أَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُخَاطِبَ الْمَخْلُوقَ بكن قَبْلَ دُخُولِهِ فِي
الْوُجُودِ أَوْ حَالَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ
خِطَابَ الْمَعْدُومِ حَالَ عَدَمِهِ سَفَهٌ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ
لِأَنَّهُ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمَوْجُودَ بِأَنْ
يَصِيرَ مَوْجُودًا وَذَلِكَ أَيْضًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
3-
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
أَنَّ الْمَخْلُوقَ قَدْ يَكُونُ جَمَادًا، وَتَكْلِيفُ الْجَمَادِ عَبَثٌ وَلَا
يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ.
4-
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ:
أَنَّ الْقَادِرَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ الْفِعْلُ وَتَرْكُهُ بِحَسْبِ
الْإِرَادَاتِ، فَإِذَا فَرَضْنَا الْقَادِرَ الْمُرِيدَ مُنْفَكًّا عَنْ
قَوْلِهِ: كُنْ فَإِمَّا أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيجَادِ وَالْإِحْدَاثِ أَوْ
لَا يَتَمَكَّنَ، فَإِنْ تَمَكَّنَ لَمْ يَكُنِ الْإِيجَادُ مَوْقُوفًا عَلَى
قَوْلِهِ: كُنْ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ
الْقَادِرُ قَادِرًا عَلَى الفعل إلا عند تكلمه بكن فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ
إِلَى أَنَّكُمْ سَمِعْتُمُ الْقُدْرَةَ بكن وَذَلِكَ نِزَاعٌ فِي اللَّفْظِ.
5-
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ
مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ [آلِ عِمْرَانَ: 59] بَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ مُتَأَخِّرٌ
عَنْ خلقه إذا الْمُتَأَخِّرُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي
الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِهِ: كُنْ فِي
وُجُودِ الشَّيْءِ فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسَادُ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَإِذَا
ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ
الْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ سُرْعَةُ نَفَاذِ قُدْرَةِ
اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ
لَا بِفِكْرَةٍ وَمُعَانَاةٍ وَتَجْرِبَةٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عِنْدَ
وَصْفِ خلق السموات وَالْأَرْضِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ كَانَ
مِنْهُمَا لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ سُرْعَةِ نَفَاذِ قَدْرَتِهِ فِي تَكْوِينِهِمَا
مِنْ غَيْرِ مُمَانَعَةٍ وَمُدَافَعَةٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: قَالَ
الْجِدَارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي؟ قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي فَإِنَّ
الَّذِي وَرَائِي مَا خَلَّانِي وَرَائِي وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
[الْإِسْرَاءِ: 44] . الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَامَةٌ يَفْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمَلَائِكَةِ إِذَا سَمِعُوهَا عَلِمُوا أَنَّهُ أَحْدَثَ أَمْرًا يُحْكَى ذَلِكَ
عَنْ أَبِي الْهُذَيْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ
قَالَ لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الْبَقَرَةِ: 65] وَمَنْ جَرَى
مَجْرَاهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصَمِّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْأَحْيَاءِ
بِالْمَوْتِ وَلِلْمَوْتَى بِالْحَيَاةِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ وَالْقَوِيُّ هُوَ
الْأَوَّلُ([19]).
وقال في جامع الدروس
العربية معللاً للرفع: فإن فاء السببِيّة "وهي التي تفيد أَن ما قبلها سببٌ
لما بعدها، وأَن ما بعدها مسببٌ عما قَبلها"، كقوله تعالى {كلوا من طيبات ما
رزقناكم ولا تطغوْا فيه فيحلَّ عليكم غضبي}.
(فإن لم تكن الفاء للسببية،
بل كانت للعطف على الفعل قبلها، أو كانت للاستئناف لم ينصب الفعل بعدها بأن مضمرة.
بل يعرب في الحالة الأولى باعراب ما عطف عليه، كقوله تعالى {لا يؤذن لهم فيعتذرون}،
أي ليس هناك إذن لهم ولا اعتذار منهم ويرفع في الحالة الأخرى، كقوله سبحانه {إنما
أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} أي "فهو يكون إذا أَراده"
فجملة "يكون" ليست داخلة في مقول القول، بل هي جملة مستقلة مستأنفة([20]).
وقال في معجم القواعد
العربية: أمَّا فاءُ "كن فيكونُ" فَيَصِحُّ فيه الرَّفْعُ والنَّصبُ،
فالرَّفعُ عَلى العَطْف والتَّعقِيْب والنَّصْبُ على أنَّ الفاءَ للسَّبَبِييّة،
فيكونَ لَفْظُ "فَيكُونَ" سَبَباً عن كُنْ وهُمَا قِراءَتان
سُبْعيَّتان، والنَّصبُ بعدَ فاء السَّبَبيَّة لا يكونُ إلا بأن يَتَقَدَّمَها
نَفْيٌ أو طَلَبٌ مَحْضَيْن([21])
حجة ابن عامر والكسائي
وقال أبو حيان في البحر المحيط:
وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب ، وفي آل عمران : {كُن فَيَكُونُ} ونعلمه ، وفي
النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف
في {كُن فَيَكُونُ} الحق في آل عمران. {كُن فَيَكُونُ} قوله الحق في الأنعام أنه
بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ، لأنه جاء بلفظ الأمر ،
فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي.... ثم قال: وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن
عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ، لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة
، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض
المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن ، من أقبح الخطأ
المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب
الله تعالى([22]).
وقال في الدر المصون: وأمَّا
ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ الناس فيها وهي
لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ،
فقال ابن مجاهد:» قرأ ابن عامر «فيكونَ» نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية؛ لأنه لا
يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ «، وقال في
آل عمران:» قرأ ابن عامر وحدَه: «كن فيكونَ» بالنصب وهو وهمٌ «قال:» وقال هشام:
كان أيوبُ بن تميم يقرأُ: فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ: فيكونُ رفعاً «، وقال
الزجاج:" كن فيكونُ: رفعٌ لا غيرُ ".
وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ
هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى، يريدون أنه قد وُجِد في
اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن
ذلك لا يَصِحُّ لوجهين، أحدهما: أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ....([23])
وقال في الكشف: فوجه
النصب مشكلٌ ضعيف، وذلك أنه جعله جوابًا بالفاء للفظ "كن" إذا كان لفظه
لفظ الآمر، وإن كان معناه غير الأمر فهو ضعيف، لأن "كن" ليس بأمر إنما
معناه الخبر، إذ ليس ثم مأمور، يكون "كن" أمرًا له، والمعنى: فإنما يقول
له: كن فيكون فهو يكون، ويدل على أن " فيكون" أن بجواب لـ"ـكُن"
أن الجواب بالفاء مضارَعٌ به الشرط وإلى معناه يؤول في التقدير، فإن قلت: اذهب
فأكرمك، فمعناه إن تذهب فأكرمك، ولا يجوز أن تقول: اذهب فتذهب، لأن المعنى يصير:
إن تذهب تذهب، وهذا لا معنى له، وكذلك "كن فيكون" يؤول معناه، إذا جعلت
"فيكون" جوابًا أن تقول له: أن يكون فيكون، ولا معنى لهذا([24]).
وقد انتقد الألوسي رحمه
الله في روح المعاني من خطَّأ ابن عامر في قراءاته بالنصب إلا أنه نحى منحى آخر في
تعليل قراءاته فقال: وقرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب، وقد أشكلت على النحاة حتى
تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ
جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول
مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة
لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون...([25])
إذن كل ما تحامل على ابن
عامر في قراءته بالنصب أنه جعل النصب جوابًا على لفظ "كن" ، لأنه جاء
بلفظ الأمر، والفاء بعده واقعة في جواب الطلب والفعل بعدها منصوب بهذه الفاء، لكن
هناك وجه آخر لجعل الفاء سببية والفعل بعدها منصوب لكن ليس في جواب "كن"
كما ذكر من سبق ذكرهم من العلماء.
قال في أوضح المسالك إلى
ألفية ابن مالك: جواز نصب الفعل المقرون بالفاء، أو الواو بعد الشرط، أو الجزاء؛
فإنه ينصب بأن مضمرة وجوبا. وإذا دخلت الفاء على مضارع مسبوق بـ
"إنما" للحصر؛ نحو: إنما أنت المسافر فتنتفع؛ جاز نصب المضارعة على
اعتبار الفاء السببية، وتنزيل الحصر منزلة الطلب، وعدم نصبه على اعتبارها غير
سببية، ومثله: قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون}؛ في قراءة من
نصب "فيكونَ"([26]).
وقال في شرح الأشموني على
ألفية ابن مالك: قد تضمر أن بعد الفاء الواقعة بين مجزومي أداة شرط أو بعدهما أو
بعد حصر بإنما اختياراً نحو إن تأتني فتحسن إلي أكافئك، ونحو متى زرتني أحسن
إليك فأكرمك، ونحو: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة: 117، آل
عمران: 47، مريم: 35)، في قراءة من نصب([27]).
قال صاحب النحو الوافي:
الفاء لا تكون سببية ينصب بعدها المضارع بأن المضمرة وجوبًا إلا بشرط أن يسبقها
إما النفي المحض أو شبهه، وإما الطلب المحض أو غير المحض أي: التقديري.. ثم قال:
وهناك ست حالات يصح اعتبار الفاء في كل منها سببية مع فقد هذا الشرط، فعند
اعتبارها سببية ينصب الفعل المضارع حتمًا بأن المضمرة وجوبًا، وعند عدم اعتبارها
لا ينصب.. ثم عد فقال في الرابعة: الفاء الداخلة على الفعل المضارع المسبوق
بأداة الحصر "إنما" نحو إنما أنت العالم فتفيد؛ فيجوز نصب المضارع
على اعتبار الفاء سببية وعدم نصبه على اعتباراها غير سببية. ثم قال في الحاشية:
يذكر النحاة لهذه المسألة مثالاً هو قوله تعالى:(إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن
فيكون) في قراءة من نصب: يكون باعتناء الحصر منَزَلاً إياه منزلة الطلب تأويلاً، ولم يجعل المضارع
منصوبًا بعد الفاء في جواب "كن" كما يرى بعضهم لعدم وجود قول حقيقةً؛ إذ
لا ينطق بها الله حين يريد خلق شئ من العدم، وإنما هي كناية عما يسمى تعلق القدرة
تنجيزًا بوجود شئ.([28])
وقال في شرح الشافية
الكافية لابن مالك: وكذلك أجروا -الكوفيون- الحصر بـ"إنما"
كقولهم: "إنما هي ضربة من الأسد فتحطم ظهره". وعليه قراءة ابن عامر: "فإنما يقول له كن
فيكون"([29]).
وعلى ما ذكر فإن النصب
عند ابن عامر ليس بسبب وقوع الفاء في جواب الطلب "كن" إنما النصب جوازًا
بسبب الحصر بـ"ـإنما" في المواضع الست والذي يدل عليه أن الموضعين في
سورة آل عمران الموضع الثاني منها وموضع سورة الأنعام ليس فيهما حصر بـ"ـإنما"
ولذلك رفعهما ابن عامر ولو كان سبب النصب عنده بأن الفاء سببية لوقوعها في جواب
"كن" لنصب المواضع جيمعها.
وعليه فابن عامر موافق
لجمهور العلماء في أن اللفظ في "كن" ليس على حقيقته وأن الفاء سببية ليس
لوقوعها في جواب "كن" إنما للحصر بـ"ـإنما" كما صرح بذلك صاحب
شرح الشافية وغيره.
وإن ابن عامر بريء مما
تحامل عليه العلماء به وإنه موافق لهم فيما ذهبوا إليه في أن النصب عنده بسبب فاء
السببية الواقعة في جواب "كن" على حقيقة الأمر، وما رموا به القراءة من
الضعف بعيد عن الصواب .. والله أعلم