الجزء الثاني
دورة في إعجاز الرسم القرآني وتتكون من مقدمة وتسعة مباحث الجزء الثاني
المبحث الثالث
حكم الالتزام بمرسوم الإمام:
أوّلا: مذهب جماهير السلف والخلف: وجوب الالتزام برسم الإمام،
نقل الإمام الجعبري وغيره
إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتّباع مرسوم المصحف العثماني.
وقال أشهب: "سئل
مالكٌ: هل يُكتب المصحفُ على ما أحْدَثَه النّاسُ من الهجاءِ؟ فقال: "لا، إلاّ
على الكَتْبَةِ الأولى". رواه الداني في المقنع وعلّق عليه بقوله: "ولا مخالِفَ
له من علماء الأمةِ" اهـ
وذكر في موضع آخر: سُئل مالكٌ عن
الحروف في القرآن مثلَ الواوِ والألفِ؛ أترى أن يغيَّرَ من المصحفِ إذا وجِدَ فيه كذلك؟
قال: لا." قال أبو عمرو الداني معلقا: "يعني الواوَ والألف المزيدتين في
الرسم المعدومتين في اللفظ، نحو: {أُوْلُواْ}[آل عمران:18]" اهـ.
وقال الإمام أحمد:
"يحرُمُ مخالفةُ [خطّ] مصحف عثمان في واوٍ أو ياءٍ أو ألفٍ أو غير ذلك".
وقال البيهقي: [وهو أحد
أقطاب ومراجع الفقه الشافعي] "منْ كتب مصحفاً فينبغي أن يُحافظَ على الهجاءِ الذي
كتبوا به تلك المصاحفَ ولا يخالفهم فيه، ولا يغيّرَ ممّا كتبوه شيئاً؛ فإنّهم كانوا
أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانةً منّا، فلا ينبغي أن نظُنَّ بأنفسنا استدراكاً
عليهم".
ومن علماء الحنفية الذين نصّوا
على ذلك الإمام الطحاوي والملا علي القارئ والشهاب الخفاجي
واستدلّ أصحاب هذا المذهب
بأمور أهمّها
1. إجماع الصحابة على هذا الرسم فلا يجوز نقد هذا
الإجماع بحال من الأحوال
2. كما استدلوا بوجوب الاقتداء بالصحابة رضي الله
عنهم
3. وأهمّ من ذلك كلّه استدلالهم بكون مرسوم الإمام
جُعِل معيارا لقبول القراءة الصحيحة وردّ الشاذة التي لا تقبل العبادة بها ولا تصحّ...
4. واستدلّ بعضهم بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم...
5. واستدلّ آخرون على وجوبه بادّعاء الإعجاز ...
يقول الأستاذ الهادي حميتو:
" ولم أقف على أحد من علماء السلف والخلف في الصدر الأول ولا بعده ذهب إلى جواز
الاستبدال بهذا الرسم، بما في ذلك أئمة اللغة والنحو في المدارس البصرية والكوفية والأندلسية."
وقال أيضا: "وقد تتبعت جملة ما قاله العلماء في اتّباع رسم المصحف فوجدتها كلها
مجمعة على وجوب الالتزام به ومنع تغييره عن هيئته في المصحف الإمام . ووجدت أنّ الاختلاف
بينهم ليس في الوجوب، وإنما في مستند هذا الوجوب..."[20] ثمّ راح يعدد المنطلقات
المختلفة للقائلين بالوجوب، والتي سأنقلها بشيء من التصرف غير مخلّ إن شاء الله...
أ. أنّه معجز، فالقرآن عندهم معجز برسمه كما هو
معجز بنظمه
ت. أنّه توقيف من رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كتب بين يديه بموافقته وتقريره. قال الدكتور طه عابدين:
"الذي تطمئن إليه النفوس ويميل إليه البحث أنّ رسم القرآن سنة توقيفية من النبي
صلى الله عليه وسلم، فقد كتب القرآن بين يديه، وأقرّ كتاب الوحي على ذلك."
ث. أنّه سنّة سنّها الخلفاء
الراشدون ابتداء بأبي بكر وعمر ثمّ عثمان وبإقرار وموافقة علي الفعلية والقولية رضي
الله عنهم أجمعين؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين [المهديين] من بعدي، عضوا عليها بالنواجد..."
ج. أنّه إجماع الصحابة الذين ولُّوا كتابته والذين
حضروا هذه الكتابة فأقرّوا ووافقوا
ح. أنّه إجماع الأمّة لتلقيها له بالقبول ولا يُعلم
منكر له إلاّ شواذٌّ من المتأخرين
خ. "أنّه جزء من القراءة متواتر بتواتر أصله"
قال القاضي أبو بكر بن العربي : "ومعنى ذلك عندي أنّ تواترها – حروف القراءة
– تَبَعٌ لتواتر المصحف الذي وافقته، وما دون ذلك فهو شاذ"
د. "أنّه قائم على أسرار ربانية" لا يعلمها
إلاّ الله سبحانه وتعالى
ر. "أنّ الرسم قائم على علل ظاهرة وأخرى خفية
يمكن استقراءها، كما ذهب إلى ذلك علماء توجيه القراءات ورسم المصحف..."
ز. "أنّه ركن للقراءة الصحيحة ومعيار على قرآنيتها،
وما خرج عنه فليس بقرآن؛ لأنه على فرض صحته منقول بنقل الآحاد."
وقد خالف هذا الرأي
أبو بكر بن الباقلاني403
هـ
العزّ بن عبد السلام
660هـ: وعبد الرحمن ابن خلدون 808هـ: (خطأ
الصحابة)
المبحث الخامس
جمع القرآن
معنى الجمع في اللغة .
الجَمْع : مصدر الفعل
"جَمَع" ، يقال : جمع الشيء يجمعه جمعا .
قال الجوهري المتوفى سنة
393هـ : ( أجمعتُ الشيءَ : جعلته جميعا ، والمجموع : الذي جُمِعَ من ههنا وههنا وإن
لم يجعل كالشيء الواحد )
معنى جمع القرآن في الاصطلاح .
جمع القرآن الكريم يطلق في علوم القرآن على معنيين :
أحدهما : جمعه بمعنى حفظه في الصدور عن ظهر قلب ، ويدل له قوله تعالى
{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } (القيامة: 17) أي : جمعه في صدرك ، وإثبات
قراءته في لسانك وما جاء « عن عبد الله بن
عمرو - رضي الله عنه - أنه قال : " جمعتُ القرآن فقرأته كلَّه في ليلة ، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى أن يطول عليك الزمان، وأن تملَّ ، فاقرأه في
شهر، فقلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي قال : فاقرأه في عشرة ، قلت : دعني أستمتع من
قوتي وشبابي، قال: فاقرأه في سبع، قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي فأبى » (([1]))
فمعنى قوله : جمعت القرآن أي : حفظته عن ظهر قلب .
الثاني : جمعه بمعنى كتابته ، ويدل له ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري
في قصة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ومما ورد فيه :
قول عمر بن الخطاب لأبي
بكر - رضي الله عنهما : ( وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن )
جمع القرأن
المطلب الأول : الأدلة على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم :
لقد وردت أدلة كثيرة تدل
على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم ومبادرته بالأمر بكتابته أذكر
منها ما يلي : ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نهى أن يُسَافر بالقرآن إلى أرض العدو » .
* وفي لفظ لمسلم أن رسول
الله صلى الله عيه وسلم قال : « لا تسافروا بالقرآن ، فإني لا آمنُ أن يناله العدو
»
وما أخرجه مالك والدرامي
وأبو عبيد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : « أن لا يَمسَّ القرآنَ
إلاّ طاهر»
أخرج مسلم عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تكتبوا عني ، ومن
كتب عني غير القرآن فليمحه » فهذا الحديث يدل
على نهي النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة كتابة شيء غير القرآن، وأن القرآن كان مأذونا
لهم في كتابته .
وأخرج ابن أبي داود أن
زيد بن ثابت قال : « كنت جار رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل الوحي أرسل
إليَّ فكتبت الوحي »
وأخرج البخاري وغيره أن
أبا بكر قال لزيد بن ثابت رضي الله عنهما : "كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ."
مراجعته صلى الله عليه
وسلم للكُتَّاب بعد كتابتهم لما ينزل فقد أخرج الطبراني عن زيد بن ثابت أنه قال: «
كنت أكتب الوحي عند رسول الله وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: اقرأه، فأقرأه، فإن
كان فيه سقط أقامه »
فهذه الأحاديث تدل على
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون الوحي ويدعوهم لكتابته فور نزوله
.
كتاب الوحي
عبد الله بن سعد بن
أبي السرح القرشي العامري
عثمان بن عفان بن أبي
العاص القرشي
علي بن أبي طالب بن عبد
المطلب القرشي الهاشمي
أبي بن كعب بن قيس الأنصاري
الخزرجي
زيد بن ثابت الأنصاري
الخزرجي
معاوية بن أبي سفيان القرشي
الأموي
هؤلاء ستة كُتَّاب للتنزيل
كتبوه بصفة رسمية بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا يضعون ما يكتبون في حجرات
النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني هذا أن الوحي لم يكتبه غيرهم ، فقد كتبه غيرهم
من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بكر وعمر وابن مسعود وغيرهم ، ولكن هذه الكتابة كانت
لأنفسهم دون تكليف من الرسول صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا فإن النبي صلى
الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلاّ والقرآن الكريم كله كان مكتوبا ، كتبه
كُتَّاب خاصون بهذه المهمة ، وبتوجيهات منه صلى الله عليه وسلم لهم .
وأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن
لكريم كان عامّا ، ولم يكن بجمعه في صحف؛ ولهذا لم يكن مجموعا في مكان ومصحف واحد،
قال زيد بن ثابت : "قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء"
ولم يكن القرآن مرتب السور
، لأنه كتب أولا بأول على حسب نزوله ، وترتيب القرآن الكريم ليس على حسب النزول بالإجماع
. مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلاّ بعد أن علَّم
الصحابة بترتيب القرآن الكريم سورا وآيات ، حتى صاروا يقرؤون القرآن الكريم كاملا مرتبا
على نحو ما أمر به صلى الله عليه وسلم بتعليم من جبريل عليه السلام للنبي صلى الله
عليه وسلم في كل عرضة يعرض فيها القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم .
جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
سبب الجمع
أن زيد بن ثابت رضي الله
عنه قال أرسل إلي أبو بكر مقتل القراء في حروب أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر
رضي الله عنه إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى
أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن
قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر هذا والله خير
فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال
أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني
به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو
والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة
التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
عليه ما عنتم حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته
ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه
جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه
لما كان عهد عثمان رضي
الله عنه، وتفرق الصحابة في البلدان وحمل كل منهم من القراءات ما سمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقد يكون عند أحدهم من القراءات ما ليس عند غيره، اختلف الناس
في القراءات، وصار كل قارئ ينتصر لقراءته، ويخطئ قراءة غيره وعظم الأمر، واشتد الخلاف،
فأفزع ذلك عثمان رضي الله عنه، وخشي عواقب هذا الاختلاف السيئة في التقليل من الثقة
بالقرآن الكريم وقراءاته الثابتة، وهو أساس عروة المسلمين، ورمز وحدتهم الكبرى. أخرج
ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق أبي قلابة قال:
لما كان عهد عثمان جعل المعلم
يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع
ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا؛ فبلغ ذلك عثمان فقال: أنتم عندي تختلفون فمن
نأى عني من الأمصار أشد اختلافا!! وقد تحقق ظنه لما جاء حذيفة بن اليمان وأخبره بما
وقع بين أهل الشام والعراق من الاختلاف في القراءة في غزوة أرمينية فهاله الأمر، وتشاور
هو والصحابة فيما ينبغي، فرأى ورأوا معه أن يجمع الناس على مصحف واحد، لا يتأتى فيه
اختلاف، ولا تنازع، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها: أن أرسلي إلينا بالصحف التي كتبت
في عهد أبي بكر ثم انتقلت بعد موته إلى عمر ثم بعد عمر إلى حفصة؛ لتكون أساسا في جمع
القرآن جمعا يقلل من الاختلاف والتنازع.
ثم عهد عثمان إلى زيد
بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوا
الصحف في مصاحف وقال للرهط القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنما
نزل بلسانهم فقاموا بمهمتهم خير قيام وكتبوا المصاحف مرتبة السور على الوجه المعروف
اليوم فلما انتهوا أرسل عثمان إلى كل مصر من الأمصار المشهورة بمصحف ليجتمع الناس في
القراءة عليه، تلافيا لما حدث في ذلك الوقت من الاختلاف والتنازع، وأمر بما سواها من
المصاحف أن يحرق، أو يخرق.
وبذلك وفق الله عثمان والصحابة لهذا العمل الجليل، ثم رد
الصحف إلى حفصة فبقيت عندها إلى أن توفيت، فأرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله
بن عمر عقب انصرافه من جنازتها أن يرسل إليه هذه الصحف فأرسلها إليه فأمر بها مروان
فشققت، وفي رواية أنه أمر بها فغسلت، وفي رواية أخرى أنه حرقها وقال: إنما فعلت هذا
لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، وكانت وفاتها رضي الله
عنها عام واحد وأربعين، وقيل عاشت إلى سنة خمس وأربعين.
المبحث
السادس
هل الرسم العثماني توقيفي:
أثارت قضية الرسم
العثماني خلافا بين العلماء، منهم يرى أنه توقيفي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وعن الصحابة -رضي الله عنهم- حيث أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بكتابته وأقرهم عليه.
ومنهم من يرى أنه
اصطلاحي، ولا مانع من مخالفته وكتابته بالطرق الحديثة تحقيقا للمصلحة العامة
للمسلمين.
وللعلماء في هذه
المسألة ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول:
أن رسم المصحف توقيفي لا يجوز تغييره، وتحرم مخالفته، شأنه
في ذلك شأن ترتيب سور القرآن وآياته، لا يجوز لنا أن نقدم أو نؤخر منها شيئا.
وهو مذهب جمهور الأمة
سلفا وخلفا، ونقل كثير من العلماء الإجماع على ذلك.
المذهب الثاني:
أن رسم المصحف ليس توقيفيا، وأنه لا مانع من تغيير هذا الرسم
حسبما تقتضيه قواعد الرسم الحديثة.
وممن ناصر هذه
المذهب: أبو بكر الباقلاني، وابن خلدون، وكثير من العلماء المعاصرين.
المذهب الثالث:
جواز كتابته بالرسم الحديث لعامة الناس حسب قواعد الخط في أي
عصر، مع الإبقاء على الرسم العثماني والمحافظة عليه للعلماء والخاصة، كأثر من
الآثار النفيسة التي حافظت عليها الأجيال المتعاقبة.
وممن ناصر هذا
المذهب: الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبدر الدين الزركشي.
أدلة المذاهب:
أدلة المذهب الأول:
استدل الجمهور على
صحة مذهبهم، وهو: أن الرسم العثماني توقيفي لا يجوز تغييره بالأدلة الآتية:
أولا: لقد كان الرسول
-صلى الله عليه وسلم- حريصا -كل الحرص- على توثيق النص القرآني من جهتين:
الجهة الأولى: الحفظ:
فقد كان -صلى الله
عليه وسلم- يحفظ كل ما ينزل عليه من الوحي، ثم يقرئ أصحابه بما حفظ، ويأمرهم
بحفظه.
الجهة الثانية:
الكتابة:
وقد بينا -فيما سبق-
أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له كُتَّاب يكتبون له الوحي، ثم يراجعهم فيما كتبوا،
حتى إذا وجد خطأ أمرهم بإصلاحه.
عن زيد بن ثابت -رضي
الله عنه- قال: "كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله علي وسلم وهو يملي
علي، فإذا فرغت قال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ" فأقرؤه، فإذا كان فيه
سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس
وعن ابن عباس -رضي
الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يأتي عليه الزمان،
وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا أنزل عليه شيء منه دعا بعض من كان يكتب
فيقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وإذا نزلت
عليه الآية يقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"
ولم يلحق الرسول -صلى
الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى إلا والقرآن كله مكتوب على هذه
الصورة، وإن لم يكن
مجموعا في مكان واحد.
وكان -صلى الله عليه
وسلم- يرشدهم إلى الطريقة المثلى في الكتابة -بوحي من جبريل عليه السلام- فقد روي
أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية: "ألق الدواة ، وحرّف القلم، وأقم
الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسّن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم".
قال القاضي عياض -بعد
أن أورد الحديث: "وهذا وإن لم تصح الرواية أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب، فلا
يبعد أن يرزق علم هذا ويمنع القراءة والكتابة"
وقال الشيخ محمد
حسنين مخلوف: "ولا ينافيه ما قيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميا لم
يتعلم الكتابة؟ لأن الإملاء بالتلقين على هذا النحو لا يستلزم تعلم الكتابة
بالمعنى الذي نفي عنه -صلى الله عليه وسلم- فإن الأول إيحاء وإعلام محض بهجاء
الكتابة ورقومها بدون تعلم وكسب، والثاني تعلم كسبي، وعمل يدوي، كما يتعلم أحدنا
مبادئ الكتابة ثم يقرأ ويكتب، وإنما لم يتعلم -صلى الله عليه وسلم- الكتابة أو
يكتب لئلا يظن أنه مصنف القرآن، فيرتاب في أمره، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ
تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ}
فالكتابة لم تقع منه
-صلى الله عليه وسلم- لا عن وحي ولا تعلم، ولا عن غريرة ينشأ عنها نظم الكتابة كما
ينشأ الشعر عن سليقة العربي"
والذي لا خلاف عليه
بين العلماء: أن القرآن الكريم كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأقر الصحابة
رضي الله عنهم على هذه الكتابة، والتقرير أحد أقسام السنة، وهو حجة عند المحدثين
والأصوليين، فلو كان هناك خطأ في الكتابة لما أقرهم على ذلك، لأنه يناقض صريح قوله
تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
قال صاحب كتاب
"الإبريز" نقلا عن شيخه عبد العزيز الدباغ: "رسم القرآن سر من
أسرار المشاهدة وكمال الرفعة، وهو صادر من النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس
للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو بتوقيف من النبي -صلى
الله عليه وسلم- وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف
ونقصانها ونحو ذلك، لأسرار لا تهتدي إليها العقول إلا بفتح رباني، وهو سر من
الأسرار التي خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، فكما أن نظمه
معجز، فرسمه معجز أيضا
ثانيا: فعل الصحابة:
الدليل الثاني على أن
الرسم العثماني توقيفي: فعل الصحابة -رضي الله عنهم- فمن الثابت أن أبا بكر -رضي
الله عنه- لما تولى الخلافة وأمر بجمع القرآن، كتبه الكتبة على نفس الهيئة التي
كتب عليها أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم جاء عثمان -رضي الله عنه- وأمر
بنسخ المصاحف من صحف أبي بكر على هذا الرسم.
وقد حث الرسول صلى
الله عليه وسلم على الاقتداء بالخلفاء الراشدين والتمسك بفعلهم فقال -صلى الله
عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"
وروى الإمام أحمد عن
عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها
تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه،
فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"3.
ثالثا: الإجماع:
من المعلوم أن القرآن جمع وكتب في عهد أبي بكر رضي الله عنه،
وأن عثمان -رضي الله عنه- نسخ المصاحف من الصحف التي جمعت في عهد أبي بكر، وأرسلها
إلى الأمصار المختلفة، وتلقى الصحابة -رضي الله عنهم- هذا العمل بالرضا والقبول
ولم يشذ أحد منهم على ذلك، وكانوا اثني عشر ألف صحابي، فكان ذلك إجماعا منهم على
صحة هذا العمل، وعدم جواز مخالفته، وتبعهم على ذلك التابعون والأئمة المجتهدون،
وأئمة القراءة في جميع العصور.
سئل الإمام مالك -رضي
الله عنه- فقيل له: أرأيت من استكتب مصحفا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس
من الهجاء اليوم؟ قال: "لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة
الأولى""كتبة الوحي".
قال الداني -بعد أن
حكى كلام الإمام مالك: "ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة"
وقال الإمام أحمد:
"تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك"
وقال القاضي عياض:
"وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المصحف
بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان من أول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}
إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد
-صلى الله عليه وسلم- وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص حرفا قاصدا لذلك، أو بدله
بحرف آخر مكانه، أو زاد حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع عليه الإجماع،
وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا لكل هذا أنه كافر"4.
ونقل الجعبري وغيره
إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتباع مرسوم المصحف العثماني
وفي شرح الطحاوي:
"ينبغي لمن أراد كتابة القرآن أن ينظم الكلمات كما هي في مصحف عثمان رضي الله
عنه، لإجماع الأمة على ذلك.
وقال الزمخشري في
الكشاف: في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ}: "وقعت
اللام في المصحف مفصولة عن "هذا" خارجة عن أوضاع الخط العربي، وخط المصحف
سنة لا تغير".
وفي شعب الإيمان
للبيهقي: "من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء التي كتبوا بها تلك
المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يغير مما كتبوه شيئا، فإنهم أكثر علما، وأصدق قلبا
ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم".
رابعا: أن قواعد الإملاء عرضة للتغيير والتبديل من جيل إلى جيل، ومن
بلد إلى بلد، فلو كتب المصحف حسب الرسم القياسي وقواعد الإملاء الحديثة، لأدى ذلك
إلى اختلاف المصاحف، ووقوع الناس في الإشكال ذاته، فلا يعرف الشامي القراءة في
المصحف المصري، ولا المغربي في المشرقي، وهكذا تعود مشكلة الألفاظ قريبة من
المشكلة التي حدثت أيام "عثمان بن عفان" -رضي الله عنه.
على أن إخضاع المصحف
للرسم الإملائي ربما يكون مدعاة -من قريب أو بعيد- إلى التغيير في جوهر الألفاظ
والكلمات القرآنية من أعداء الإسلام، وسد الذريعة أصل من أصول التشريع الإسلامي،
فيجب سد الباب على كل من تسول له نفسه المساس بقدسية القرآن الكريم، وبقاء الرسم
العثماني كما هو.
خامسا:أن تلاوة القرآن لها أحكام خاصة، لا يمكن أن تعرف إلا بالتلقي والمشافهة، حتى يتصل سند التلقي والإقراء من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة، وهذه خاصية اختص الله بها القرآن الكريم، وبقاء الخط العثماني يدفع المسلمين إلى الحرص على التلقي من أهل الاختصاص، فتبقى سلسلة السند متصلة.
سادسا: أن الرسم العثماني له خصائص ومميزات ليست موجودة في
الرسم الإملائي.
ومن هذه المميزات:
1- الإشارة: إلى ما في الكلمة من أوجه القراءات.
كالأمثلة التي تقدمت عند الكلام على كيفية اشتمال
المصاحف على ما استقر وصح نقله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تنسخ
تلاوته، وموافقة القراءة لرسم المصحف شرط من شروط قبولها، فارتباط الرسم العثماني
بالقراءات ارتباط وثيق الصلة، ولا يمكن أن يقوم مقامه أي رسم آخر.
ومن الأمثلة الواضحة
في هذه الصدد: أن هاء التأنيث أحيانا ترسم بالتاء، وأحيانا ترسم بالهاء، وليس ذلك
من قبيل الصدفة، وإنما هو تابع للقراءة ومحقق لها، فكلمة "بينة" وردت في
القرآن الكريم في تسعة عشر موضعا، كتبت كلها بالهاء، إلا من موضع واحد كتبت فيه
بالتاء، وهو قوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ
مِنْهُ}
والسبب في ذلك: أن
هذا الموضع فيه خلاف بين القراء، فمنهم من يقرأ بالجمع "بينات" ومنهم من
يقرأ بالإفراد، فرسمت بالتاء لتحتمل القراءتين، أما بقية المواضع فليس فيها إلا
الإفراد، فرسمت كلها بالهاء
2- الدلالة على بعض لغات العرب:
الخاصية الثانية التي
يختص به الرسم العثماني: أن فيه دلالة على بعض لغات العرب، وهم يفتخرون بأن القرآن
نزل بلغتهم، وكتب -أيضا- على لغتهم.
ومن أمثلة ذلك: كتابة
هاء التأنيث تاء مفتوحة في بعض المواضع، للإيذان بجواز الوقف عليها بالتاء على لغة
"طيئ"، كما في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ} ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا
تُحْصُوهَا} كتبت في سورة إبراهيم بالتاء،
وفي سورة النحل بالهاء، للدلالة على بعض لغات العرب.
ومن أمثلة ما جاء
محققا لبعض لغات العرب: حذف ياء المضارعة من غير جازم على لغة هذيل، كما في قوله
تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. فقد حذفت الياء من
{يَأْتِ} ، وليس قبلها جازم.
3- اتصال السند:
من أهم المميزات التي
يتميز بها الرسم العثماني: أنه يؤدي إلى اتصال السند إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- لأنه لو كان مكتوبا على الرسم القياسي لاستغنى الناس عن التلقي والأخذ عن
المشايخ، واكتفوا بالقراءة في المصاحف، فيفوتهم معرفة ما فيه من طرق الأداء من مد
وقصر، وإدغام وإظهار، وتحقيق وتسهيل، وفتح وإمالة، وترقيق وتغليظ، وإشمام وروم،
وغير ذلك من القواعد التي لا يمكن الوقوف عليها ولا أداؤها بطريقة سليمة إلا
بالتلقي والمشافهة، وإلا فكيف ينطق المسلم قوله تعالى: {كهيعص} {حم، عسق} {طسم}
{يس} لو لم يسمعها من معلم أو يقرؤها عليه؟
واتصال السند خاصية
من الخصائص التي اختصت بها الأمة المحمدية، لا سيما في تلاوة القرآن الكريم.
4- الدلالة على أصل الحركة:
من المعروف أن
المصاحف العثمانية كانت خالية من النقط والشكل، ولذلك أشير إلى بعض الحركات بحروف
تدل عليها، مثل: زيادة الياء في قوله تعالى: "من نبأى المرسلين" زيدت
الياء بعد الهمزة للدلالة على الكسرة.
ومثل زيادة الواو في
قوله تعالى: "سأوريكم دار الفاسقين".
زيدت الواو في
"سأوريكم" للدلالة على أن الهمزة مضمومة.
وبعض العلماء يرى أن
الزائد هو الألف، وأن الواو صورة الهمزة.
5- الدلالة على أصل الحرف:
مثل: كتابة لفظ
"الصلاة، الزكاة، الحياة، الربا" بالواو بدلا من الألف. ومثل رسم الألف
بالياء للدلالة على أن أصلها الياء فيميلها من مذهبه الإمالة مثل: "والضحى،
فهدى، التقوى، يغشى" وإذا كان أصلها الواو رسمت ألفا، للدلالة على عدم
إمالتها مثل "إن الصفا، عفا، خلا، دعا، دنا".
6- الدلالة على بعض المعاني الدقيقة:
من المميزات التي
تميز بها الرسم العثماني: دلالته على معانٍ خفية دقيقة، لا تدرك إلا بإمعان النظر
فيها، أو بفتح رباني -كما قال بعض العلماء.
ومن أمثلة ذلك:
أ- قوله تعالى: "والسماء
بنيناها بأييد وإنا لموسعون" رسم قوله تعالى "بأييد" بياءين
للإشارة إلى عظمة الله تعالى التي بنى بها السماء، وأنها قوة لا تشبهها قوة أخرى،
تمشيا مع القاعدة المشهورة: "زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى".
ب- قوله تعالى:
"وجايء بالنبيين والشهداء" في سورة الزمر، وقوله تعالى: "وجايء
يومئذ بجهنم" في سورة الفجر، رسمتا بزيادة الألف "وجايء" للتفخيم
والتهويل والوعيد والتهديد، وأنه مجيء على غير ما يعهد البشر، فجاء الرسم على غير
ما يعهدون.
جـ- زيادة الياء في
قوله تعالى: "بأييكم المفتون" أي المجنون، فزيدت الياء في
"بأييكم" للإشارة إلى أن جنون المشركين بلغ الغاية وتجاوز الحد.
د- زيادة الألف في
قوله تعالى: "تالله تفتؤا تذكر يوسف" رسمت الهمزة على واو وزيد بعدها
ألف، للدلالة على أن يعقوب -عليه السلام- كان يكثر من ذكر يوسف -عليه السلام.
هـ- زيادة الألف في
قوله تعالى: "وأنك لا تظمؤا فيها" رسمت الهمزة على واو وبعدها ألف،
للدلالة على استمرار الري لمن كان في الجنة وعدم الظمأ.
و زيادة الألف بعد
الفعل المعتل الآخر في قوله تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
ويعفوا عن كثير". فقد زيدت الألف بعد الفعل "يعفوا" للإشارة إلى
كثرة عفو الله تعالى واستمراره.
ز- كذلك حذف الألف في
بعض المواضع التي يجب أن تثبت فيها للدلالة على معنى معين:
فقوله تعالى:
"والذين سعو في ءايتنا معجزين" حذفت الألف من "سعوا" للإشارة
إلى أنه سعي في الباطل لا يصح له ثبات في الوجود، ولن يحصلوا منه على طائل.
ومثل ذلك قوله تعالى:
"وجاءو بسحر عظيم"، وقوله تعالى: "وجاءو ظلما وزورا" وقوله
تعالى: "وجاءو أباهم عشاء يبكون"، وقوله تعالى: "وجاءو على قميصه
بدم كذب" كل هذه الأفعال حذفت منها الألف بعد واو الجماعة في "جاءوا"
للإشارة إلى أن مجيئهم على وجه غير صحيح ويغلب عليه الكذب والتزوير.
جـ- كذلك حذفت الألف
من قوله تعالى: "وعتو غتوا كبيرا" حذفت الألف التي بعد الواو في قوله
تعالى: "عتو" للدلالة على أنه باطل، ولا أثر له يذكر في الوجود.
7- إفادة بعض المعاني المختلفة:
فمن خصائص هذا الرسم:
أن الكلمة تكتب بطريقتين مختلفتين لتدل في كل موقع على معنى مخالف للآخر، ومن
أمثلة ذلك: قطع "أم" عن "من" أو وصلها بها، فكتبت مقطوعة في
قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} 6 للدلالة على أنها
"أم" المنقطعة، وسميت بذلك لقطع الكلام الأول واستئناف غيره7.
وكتبت موصولة في مثل
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. للدلالة على
أنها ليست مقطوعة.
إلى غير ذلك من
المزايا والأسرار التي يمكن أن تستفاد من الرسم العثماني إذا درست بعقل واعٍ، وقلب
مستضيء، والتي تدل على وجوب بقاء الرسم العثماني كما هو، وعدم مخالفته بحال من
الأحوال.
المذهب الثاني:
استدل القائلون بأن
الرسم العثماني ليس توقيفيا بما يأتي:
أولا:
أنه لا دليل
يدل على ذلك من القرآن أو السنة، فلا مانع من رسمه بأي رسم كان.
ولذلك يقول أبو بكر
الباقلاني: "وأما الكتابة: فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ
على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ
وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس من نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم
القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحد محدد، لا يجوز تجاوزه، ولا في نص
السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه
القياسات الشرعية، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله
علي وسلم كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك
اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد
وينقص، لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا -بعينه-
جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن
تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء
القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المستحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك.
وإذا كانت خطوط
المصاحف، وكثير من حروفها مختلفة، متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك،
وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير
تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ من ذلك على الناس حد محدود مخصوص، والسبب في
ذلك: أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم
دال على الكلمة، مفيد لوجه قراءتها تجب صحته، أو تصويب الكاتب به على أي صورة
كانت.
وبالجملة: فكل من
ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص، وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له
ذلك"؟!
الرد على هذا الدليل:
يرد على هذا الدليل
بما يأتي:
1- دعواهم أنه ليس
هناك دليل على التوقيف، لا من القرآن ولا من السنة والإجماع والقياس، كل ذلك مردود
بالأدلة التي سقناها لمذهب الجمهور.
2- قول أبي بكر:
"ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول" لا معنى له
ولا يفيد القائلين بهذا المذهب، لأن الحروف الكوفية لم تخرج عن كونها مطابقة لنفس
القواعد التي كتب بها المصحف، فأين الشاهد في ذلك؟
3- دعواه: "أن
كل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته، وتصويب الكاتب به على أي صورة
كانت" هذه الدعوى تناقض ما يذهب إليه أصحاب هذا المذهب، وتهدم الأساس الذي
بني عليه، لأن القراءة سنة متبعة، والتوقيف فيها أمر مجمع عليه.
فالقول بأن يرسم
القرآن كيفما كان، وبأي طريقة، قول باطل، يخالف ما جاء عن سلف الأمة وخلفها،
بالنقل الصحيح، والتلقي عن أهل الرواية.
جاء في إتحاف فضلاء
البشر:
"وقد أجمعوا على
لزوم اتباع الرسم -فيما تدعو الحاجة إليه اختيارا واضطرارا- وورد ذلك نصا على
نافع، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وكذا أبو جعفر، وخلف، ورواه كذلك -نصا-
الأهوازي وغيره عن ابن عامر، واختاره أهل الأداء لبقية القراء، بل رواه أئمة
العراقيين نصا وأداء عن كل القراء".
ثانيا:
أن الخط
العربي -عند ظهور الإسلام وكتابة المصاحف- كان في دور الطفولة والتكوين، ولم يكن
الكُتَّاب -حينئذ- قد حذفوا الكتابة، فكتبوا على قدر ما تيسر لهم، أما وقد استقرت
قواعد الكتابة وأصول الخط،
مناقشة هذا الدليل:
هذا الدليل مبني على
الاتجاه الذي يرى خطأ الصحابة -رضي الله عنهم- في كتابة القرآن الكريم، وقد سبق
الرد على ذلك، وبينا أنهم -رضي الله عنهم- كانوا يكتبون بناء على قواعد صحيحة،
ولذلك فرقوا بين الكلمات المتشابهة، فألحقوا الواو بكلمة "أولئك" للفرق
بينها وبين "إليك" باعتبار أن المصاحف كانت خالية من النقط والشكل.
قال الألوسي:
"والظاهر أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا متقنين رسم الخط، عارفين ما
يقتضي أن يكتب، وما يقتضي أن لا يكتب، وما يقتضي أن يوصل، وما يقتضي أن لا يوصل
... إلى غير ذلك، لكن خالفوا في بعض المواضع لحكمة".
وقال ابن الجزري:
"إن كتابة الصحابة للمصحف مما يدل على عظيم فضلهم في علم الهجاء خاصة، وثقوب
فهمهم من تحقيق كل علم".
إن دعوى خطأ الصحابة
-رضي الله عنهم- في كتابة المصاحف يتعارض مع ما وعد الله -تعالى- به من حفظ كتابه
في قوله -جل وعلا- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} .
ثالثا:
أن الرسم
العثماني بظواهره المتقدمة المخالفة لقواعد الرسم الاصطلاح توقع عامة المسلمين في
حرج، وتؤدي إلى التحريف في كتاب الله تعالى، فتحاشيا لذلك يجب كتابة المصاحف
بالرسم الإملائي الحديث، تمشيا مع المصلحة التي تتفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها
العامة.
وهذا ما قاله الشيخ
عز الدين بن عبد السلام: "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح
الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال ... ".
الرد على هذا الدليل:
رد ابن الحاج في
كتابه "المدخل" على هذا الدليل بقوله: "ولا يلتفت إلى اعتلال من
خالف بقوله: إن العامة لا تعرف مرسوم المصحف، ويدخل عليهم الخلل في قراءتهم في
المصحف إذا كتب على المرسوم، لأن من لا يعرف المرسوم من الأمة يجب عليه ألا يقرأ
في المصحف إلا بعد أن يتعلم القراءة على وجهها أو يتعلم مرسوم المصحف، فإن فعل غير
ذلك فقد خالف ما اجتمعت عليه الأمة، وحكمه معلوم في الشرع الشريف، فالتعليل
المتقدم ذكره مردود على صاحبه، لمخالفته للإجماع المتقدم، وقد تعدت هذه المفسدة
إلى خلق كثير من الناس في هذا الزمان، فليتحفظ من ذلك في حق نفسه وحق غيره، والله
الموفق".
وقد بينا في أدلة
مذهب الجمهور الأضرار التي يمكن أن تقع نتيجة كتابة المصاحف بالرسم الإملائي، وأنه
عرضة للتغيير والإضافات في كل عصر، وربما أدى إلى تحريف القرآن الكريم.
بالإضافة إلى أن
القراءات الصحيحة تتفق مع الرسم العثماني -إما تحقيقا وإما احتمالا كما تقدم-ولو
كتب بغير الرسم العثماني لاختل ذلك، ومن قواعد الشريعة: درء المفاسد مقدم على جلب
المصالح.
على أن جهل الجاهلين
لا يعتبر مسوغا لتغيير ما أجمعت عليه الأمة منذ عصر الصحابة -رضي الله عنهم- ولم
يَشْكُ أحد من المسلمين من عدم معرفته بخط المصحف، بل العكس هو الصحيح، فإن قواعد
الإملاء الحديثة تختلف من قطر إلى قطر، بخلاف الرسم العثماني فلا يختلف من بلد إلى
بلد، بدليل أن المسلمين من غير العرب لا يستطيع البعض أن يتحدث معهم.
ولا يفهم ما يقولون،
فإذا أمسك بالمصحف قرأ قراءة صحيحة، وما ذلك إلا لأن هذا الرسم قد استقر في
أذهانهم بهذا الطابع المميز.
أدلة المذهب الثالث:
سبق أن قلنا: إن
أصحاب هذا المذهب يرون أن يكون هناك خطآن للمصحف الشريف: أحدهما للخاصة حسب الرسم
العثماني، وآخر للعامة حسب الاصطلاح الحديث.
وأهم ما تمسك به
أصحاب هذا المذهب: هو حماية القرآن الكريم من تحريف الجهال وخطئهم في تلاوته، وفي
ذلك مصلحة عامة تتفق مع قواعد الشرع ومقاصده.
وقد نص على ذلك
الزركشي نقلا عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال: "قال الشيخ عز الدين بن
عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في
تغيير الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم،
وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله
بالحجة"1 وقد تقدم في الرد على الدليل الثالث لأصحاب المذهب الثاني ما يرد
على هذا الدليل.
يضاف إلى ذلك: أن هذه
الدعوة تفتح مجالا للشك في القرآن الكريم، حيث يكون هناك رسمان متمايزان، فأيهما
الصواب وأيهما الخطأ؟!
وفي هذا من المفاسد
ما فيه.
وصفوة القول:
إن رسم المصحف
بالطريقة التي كتب عليها أيام الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" -رضي الله
عنه- توقيفي، ثبت ذلك بإقرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكُتَّاب
الوحي الذين كانوا
يكتبون ما يوحى إليه -صلى الله عليه وسلم- ثم يقرءون عليه ما كتبوه، وهم الذين
كتبوه وجمعوه في عهد الخليفة الأول "أبي بكر الصديق" -رضي الله عنه- ثم
نسخوا منه هذه المصاحف.
كما تأكد بإجماع
الصحابة جميعا على صحة هذ العمل، وكذا التابعون من بعدهم، والأئمة المجتهدون،
وجميع القراء إلى يومنا هذا، حتى جعل أئمة القراءة: موافقة الرسم العثماني شرطا من
شروط قبول القراءة.
قال شيخي الشيخ عبد
الفتاح القاضي:
" ... وبناء على
هذا يجب على كاتب المصحف وطابعه وناشره أن يتحرى كل منهم كتابته على قواعد الرسم
العثماني، ولا يخل بشيء منها، ولا يغير فيها شيئا ما، بزيادة أو نقص، أو إثبات أو
حذف، حفظا لهذا التراث الخالد، واقتداء بالصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وأعلام
الإسلام في سائر الأعصار والأمصار، لا فرق في ذلك بين المصاحف الكاملة، والمصاحف
الصغيرة "الأجزاء" التي يتعلم فيها الصغار ومن في حكمهم من الكبار،
ليتعرفوا على قواعد الرسم منذ طفولتهم، ونعومة أظفارهم، وعلى معلمي القرآن -حيث
كانوا- ألا يدخروا وسعا في تعليم أبنائهم تلك القواعد من الصغر، حتى يشبوا وقد
وقفوا عليها، وأحاطوا بها خبرا، وأصبحت القراءة في المصحف ميسورة عليهم وسجية
لهم".
يتبع
وللاستماع للمحاضرة كاملة اضغط هنا