-->
U3F1ZWV6ZTIxMjczMTA0OTU1X0FjdGl2YXRpb24yNDA5OTQ5MzAyNzQ=
recent
أخبار ساخنة

دورة إعجاز الرسم القرآني تتكون من مقدمة وتسعة مباحث الجزء الثالث (شبهات وردود)


الجزء الثالث

المبحث الثامن (شبهات وردود)

الشبهة الأولى وجوابها:

قالوا: كيف يكون جمع القرآن عن إجماع من الصحابة مع أن عبد الله بن مسعود وهو ذو السابقة في الإسلام قد كره أن يتولى زيد جمع المصحف.
وقال: يا معشر المسلمين كيف أعزل عن جمع المصحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر، وقال أيضا: أعزل عن المصاحف وقد أخذت من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت ذو ذؤابتين يلعب مع الصبيان، وفي رواية: بضعا وسبعين سورة....

والجواب:

أن قول ابن مسعود هذا لا يدل على عدم جواز جمع القرآن في المصحف، ولا على أنه كان مخالفا في الجمع، وكل ما يدل عليه أنه يرى أنه أحق من زيد بجمع القرآن لسوابقه في الإسلام، على أنه قال هذا في وقت غضبه فلما سكت عنه الغضب أدرك حسن اختيار عثمان ومن معه من الصحابة لزيد بن ثابت وقد ندم على ما قال واستحيا منه؛ فقد روى أبو وائل هذه القصة ثم قال عقبها: إن عبد الله استحيا مما قال فقال: ما أنا بخيرهم ثم نزل عن المنبر ولم يكن اختيار أبي بكر وعثمان لزيد إلا لما له من المزايا التي تؤهله لهذه المهمة الجليلة وقد أفصح عن هذه المزايا الصديق بقوله: إنك رجل، شاب، عاقل، لا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصفه بأربع صفات لابد منها لمن يقوم بهذا العمل وهي الشباب المقتضي للقوة والصبر والجلد، والعقل وهو جماع الفضائل، والأمانة وعدم التهمة وهي الصفة التي لابد منها لمن يقوم بهذا العمل، وكتابة الوحي، وبها يتم التوثق والاطمئنان ومع ذلك فقد ضم عثمان إليه ثلاثة من أوثق الصحابة وأعلمهم، وهذه الخصائص لا تقتضي أفضليته على عبد الله بن مسعود ولا على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وإنما تقتضي أهليته لما عهد إليه به.

.الشبهة الثانية وجوابها:

قالوا: كيف يكون القرآن كله متواترا مع أن زيد بن ثابت قال في أثناء ذكره لحديث الجمع في عهد أبي بكر: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره. وقال في أثناء ذكره لكتابة المصاحف في عهد عثمان: ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري، الذي جعل رسول الله شهادته بشهادة رجلين، فهاتان الروايتان تدلان على أنه اعتمد في جمع القرآن على بعض الروايات الآحادية، وهو يخالف ما هو مقرر عندكم من أن القرآن- في جملته وتفصيله- ثابت بالتواتر المفيد للقطع.

والجواب:

أن هذا الذي نقل لا ينافي تواتر القرآن؛ فقد ذكرنا لك فيما سبق أن الاعتماد في جمع القرآن كان على الحفظ والكتابة، وكان غرضهم من ذلك زيادة التوثق والاطمئنان، وأن ما كتبوه إنما هو من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقول زيد: لم أجدهما، أي لم أجدهما مكتوبتين وهذا لا ينافي أنهما كانتا محفوظتين عند جمع يثبت بهم التواتر، والتواتر إنما هو في الحفظ لا في الكتابة، يدل على ذلك قول زيد في الرواية الثانية: ففقدت آية من الأحزاب كنت أسمع رسول الله يقرأ بها، فهو إذا كان حافظا لها ومتيقنا لقرآنيتها، وكذلك من كانوا معه كانوا يحفظونها ولكن كان يبحث عن أصلها المكتوب.
فإن قيل إن اتجه هذا الجواب، واستقام في الرواية الأولى، فكيف يتجه في الرواية الثانية؛ فقد كانت آية الأحزاب مكتوبة في الصحف التي كتبت في عهد الصديق قلت: لعلها انمحت وتطاير مدادها فلم يبق ما يدل عليها أو لعل الأرضة أكلت موضعها من الصحيفة فاضطر أن يبحث عن أصلها المكتوب فوجده مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، على أن المعول عليه في القرآن التواتر الحفظي لا الكتابي.

.الشبهة الثالثة وجوابها:

قالوا: إن القرآن قد زيد فيه ما ليس منه بدليل ما ورد أن عبد الله ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، وفي رواية كان يحك المعوذتين من مصحفه، ويقول: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله.

والجواب:

أن هذه الروايات غير صحيحة، وأغلب الظن أنها مدسوسة على ابن مسعود، وإليك ما قاله الأئمة فيها، قال الإمام النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منها شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح، وقال ابن حزم في كتاب القدح المعلّى، تتميم المجلّى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يصح عنه أنها ليست من القرآن، ولا حفظ عنه، إنما حكها وأسقطها من مصحفه إنكارا لكتابتها، لا جحدا لكونهما قرآنا لأنه كانت السنة عنده، أن لا يكتب في المصحف إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته فيه، ولم يجده كتب ذلك ولا أمر به، يعني في علمه وظنه، وإلا فقد تيقن قرآنيتهما غيره من الصحابة، وحفظوهما، وكتبوهما في المصاحف كما صنع زيد ومن معه.
وذهب الحافظ ابن حجر إلى صحة ما روي عن ابن مسعود، وقال: قول من قال إنه كذب عليه مردود والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل بل الروايات صحيحة، والتأويل محتمل، وقد أوله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق، وعلى فرض صحة الرواية يجاب بما يأتي:
1- عدم كتابتهما أو حكّهما لا يستلزم إنكار كونهما من القرآن لجواز أنه كان لا يكتبهما اعتمادا على حفظ الناس لهما لا إنكارا لقرآنيتهما فالفاتحة يقرؤها كل مسلم في الصلاة، المعوذتان يعوذ بهما المسلمون أولادهم، وأهليهم ويحمل قوله: كتاب الله على المصحف، قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: وأما إسقاط الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن، معاذ الله، ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان، ومعنى ذلك أنه يرى أن الشك والنسيان، والزيادة والنقصان مأمونة في سورة الحمد؛ لقصرها ووجوب تعلمها على كل أحد لأجل الصلاة.
2- أنها رواية آحادية، فهي لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، والعبرة في التواتر أن يروى عن جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، لا أن لا يخالف فيه مخالف، فظن ابن مسعود أنهما ليستا من القرآن لا يطعن في قرآنيتهما، قال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن، لأنه رأى النبي يعوذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه، ولا نقول إنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار.
3- على فرض صحة الرواية فيحمل ذلك على أنه كان قبل أن يستيقن ذلك، فلما علم ذلك وتيقنه رجع إلى رأي الجماعة، وليس أدل على ذلك من أن الذين تعزى قراءاتهم إلى ابن مسعود متفقون على أن هذه السور الثلاث من القرآن؛ قال ابن الصباغ: إنه لم يستقر عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك، وهذا الجواب هو الذي تستريح إليه النفس.

الشبهة الرابعة وجوابها:

قالوا: إن القرآن نقص منه ما كان بعض الصحابة يكتبه في مصحفه، يدل على ذلك ما روي عن أبي بن كعب أنه كان يكتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد، وهو دعاء القنوت: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك... ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد...».

والجواب على ذلك:

لا نسلّم أنهما من القرآن وكتابة أبي بن كعب لهذا الدعاء في مصحفه لا يدل على القرآنية، ونحن نعلم أن مصاحف الصحابة لم تكن قاصرة على المتواتر؛ بل كان بعضها مشتملا على الآحادي؛ والمنسوخ تلاوة، وعلى بعض تفسيرات، وتأويلات، وأدعية، ومأثورات، ومن ذلك هذا الدعاء الذي يقنت به بعض الأئمة في الوتر ووجوده في مصحف أبيّ لا يدل على أنه قرآن، كما أن القنوت به في الصلاة لا يدل على القرآنية، ولا يشك ذو نظر فاحص وذوق أدبي أن هذا الدعاء ليس عليه مسحة من سحر القرآن وبلاغته وإعجازه وإشراقه، مما يلقي بهذه الشبهة في غيابة الإهمال.
2- على فرض أن أبيّا أثبتها في المصحف على أنها قرآن فهي رواية آحادية ظنية لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر كما أنها لا تكفي في إثبات كونها من القرآن؛ لأن المعول عليه في ثبوت القرآن التواتر.
وهنا قاعدتان ينبغي التنبه إليهما في رد كل رواية تفيد زيادة شيء في القرآن، أو نقص شيء منه وهما:
1- كل رواية آحادية لا تقبل في إثبات شيء من القرآن.
2- كل رواية آحادية تخالف المتواتر من القرآن لا تقبل، ويضرب بها عرض الحائط.

.الشبهة الخامسة وجوابها:

ما نقله العلامة الآلوسي عن بعض الشيعة والملاحدة وخلاصته أن عثمان بل وأبا بكر حرفا القرآن، وأسقطا كثيرا من آياته وسوره. وقالوا: إن القرآن الذي نزل به جبريل كان سبع عشرة ألف آية وأن سورة الأحزاب كانت مثل سورة الأنعام؛ أسقطوا منها فضائل أهل البيت، وأن سورة الولاية أسقطت بتمامها، إلى غير ذلك من الأباطيل والخرافات، والترّهات التي لم تقم عليها أثارة من علم.

والجواب:

أن هذه دعاوى لم يقم عليها شبه دليل، ولو أن كل دعوى تقبل من غير استدلال لما ثبتت حقيقة، ولما توصل الناس إلى علم ومعرفة وهذا الكلام من غلو الشيعة في آرائهم الجائرة، ولهذا نجد العقلاء منهم يتبرءون من مثل هذه الخرافات. قال الطبرسي في مجمع البيان- وهو من علمائهم-: أما الزيادة في القرآن فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فيه فروي عن قوم من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه.

الشبهة السادسة وجوابها:

ما زعمه صاحب ذيل مقالة في الإسلام من أن القرآن قد أسقط منه ما هو منه، وزيد فيه ما ليس منه، وأيد زعمه بما يأتي:
1- ما ورد في الحديث أن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله فلانا لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية: «أنسيتها» فهذا فيه اعتراف من النبي بأنه أسقط بعض الآيات، أو أنسيها.
2- ما جاء في سورة الأعلى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} وزعم هذا المفتري أن النبي صلى الله عليه وسلم أنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها.
3- قال: إن الصحابة قد حذفوا من القرآن ما رأوا المصلحة في حذفه فمن ذلك آية المتعة، أسقطها عليّ بتة وكان يضرب من يقرؤها، وهذا مما شنعت عائشة به عليه، فقالت: إنه يجلد على القرآن وينهى عنه، وقد حرفه وبدله، وما روي أن أبيّا كان يكتب في مصحفه: اللهم إنا نستعينك... إلخ، الدعاء ولا يوجد اليوم في المصحف.
4- قال: إن كثيرا من آياته لم يكن لها من قيد سوى تحفظ الصحابة، وكان بعضهم قد قتلوا في الغزوات، وحروب خلفائه الأولين، وذهب معهم ما كان يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه، فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يحفظه الأحياء، أما ما كان مكتوبا على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبا عليها بلا نظام، ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت لفظا لا حكما، وهو من غريب المزاعم، وحقيقة الأمر أنها قد سقطت بضياع العظم، ولم يبق منه سوى المعنى محفوظا في صدورهم.
5- زعم أن الحجاج لما قام بنصرة بني أمية لم يبق مصحفا إلا جمعه وأسقط منه أشياء كثيرة قد نزلت فيهم، وزاد فيه أشياء ليست منه، وكتب ستة مصاحف وجه بها إلى الأمصار، وهي القرآن المتداول اليوم، وأعدم المصاحف المتقدمة التي كتبها عثمان، وإنما رام بفعله التزلف إلى بني أمية.
6- زعم أن آية: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية من كلام أبي بكر قالها يوم السقيفة، وكذا آية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} من كلام عمر ثم لما جمع القرآن ضم إليه هذا الكلام.
وبالنظر في هذه الدعاوى نجد أنها عارية عن الدليل، وأنها إما ادعاءات وافتراءات، أو تحريفات وتأويلات لبعض الآيات والأحاديث بغير حجة.

والجواب

سنناقشه فيما قال كي يتبين للمنصفين أنه لا يعدو أن يكون هراء من القول وإليك تفنيد هذه المزاعم.
1- أما ما ذكره من الحديث فهو ثابت، ولكن حمله ما لا يحتمل وفهمه على غير وجهه، فالرواية الثانية تفسر الأولى، وتدل على أن الإسقاط عن طريق النسيان لا العمد، ولا يضر نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام يحصل له التذكر إما من نفسه، أو من مذكر كما في الحديث، وزيادة في التوضيح نقول النسيان من النبي لشيء من القرآن على قسمين:
أحدهما: نسيان الشيء الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون».
والثاني: أن يرفعه عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ}.
أما الأول: فعارض سريع الزوال يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}، فهذا تكفل من الله تبارك وتعالى أن يحفظ كتابه عن أي نقص أو زيادة، أو تغيير أو تحريف، وقد ثبت أن القرآن الكريم معجزة المعجزات، فوجب التصديق بكل ما جاء فيه.
وأما الثاني: فداخل في قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها} بضم النون وبغير همز، فالنسيان عارض بشري يجوز على الأنبياء فيما ليس طريقه البلاغ من أمور الدين والشريعة، وذلك كالأمور الدنيوية أما ما كان من الدين والشريعة، مما هو واجب البلاغ فيجوز لكن بشرطين:
أ- أن يكون بعد تبليغه كما هنا.
ب- أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره إما بنفسه، وإما بغيره، وأما قبل التبليغ فلا يجوز أصلا، وهذا ما قام عليه الدليل العقلي؛ إذ لو جاز النسيان قبل التبليغ أو بعده بدون أن يتذكر، أو يذكره الغير لأدى إلى الطعن في عصمة الأنبياء، ولجاز ضياع بعض الشرائع والأديان، وفي هذا تشكيك فيها وإبطال لها.
2- إن ما استدل به من قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} فهو تحريف للكلم عن مواضعه، وزعم من لم يعرف سبب نزول الآية، ولا المراد من الاستثناء، ولا الغرض الذي سيقت له الآية، أما سببها فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى، فأزال الله خوفه بهذه الآية، وأما الاستثناء فالمحققون من العلماء على أنه ليس بحقيقي وإنما هو صوري، يراد منه تأكيد عدم النسيان بتعليق الشيء على ما هو مستحيل وقوعه، وليدل على استحالته بالبرهان، وقد ضمن الله لنبيه تحفيظه له فكيف يشاء إنساءه له قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ} [القيامة: 16- 19] الآيات، ومثل هذا الاستثناء قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا} [الإسراء: 86]، ونحن نقطع أنه سبحانه ما شاء ذلك والغرض من هذا الاستثناء على هذا:
1- تعريفه صلى الله عليه وسلم أن عدم النسيان من فضل الله تعالى عليه، فيديم له الشكر والعبادة والذكر في كل وقت.
2- تعريف أمته ذلك حتى لا يرفعوه صلى الله عليه وسلم من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، كما فعل اليهود والنصارى بأنبيائهم.
وهناك رأي آخر في الآية: وهو أن المراد بما يشاء الله أن ينساه هو ما أراد الله نسخه، فيذهب من قلبه، وأيّا كان المراد فليس في الآية ما يشهد لما زعمه هذا الطاعن.
3- ما زعمه من أن الصحابة أسقطوا ما رأوا المصلحة في إسقاطه تجن على الصحابة وعلى الحق، والواقع، وإنما يزعم هذا من يجهل ما كانوا عليه من عنايتهم بالقرآن، وامتزاجه بلحمهم، ودمهم، وحبهم له حبا يفوق الأهل والولد، ومراقبتهم لمنزل القرآن حق المراقبة، وهل يعقل أن تتفق جماعة تعد بالألوف على باطل من غير أن يقوم بينهم من ينكر ذلك ويجهر به وبحسبك أن تقرأ ما كتبناه في جمع القرآن لترى كيف أحاط الصحابة القرآن بسياج قوي من الحفظ والعناية، فلم يزيدوا فيه حرفا أو ينقصوا منه حرفا، أما ما يذكره عن عليّ أنه أسقط آية المتعة... إلخ، فكذب وافتراء عليه ولا أدري ما يريد الطاعن بالمتعة؛ فإن أراد نكاح المتعة فالآية التي يستدل بها بعض القائلين بإباحته موجودة في سورة النساء لم تحذف، وهي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ فَرِيضَةً} [النساء: 24]، ونكاح المتعة أحل للضرورة ثم حرم إلى يوم القيامة، وإن أراد متعة الحج فآيتها في القرآن موجودة في المصاحف إلى اليوم، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وأما ما ذكره عن مصحف أبيّ فقد بينت أنه دعاء وليس بقرآن قطعا.
4- أما ما زعمه من أن القرآن لم يكن له من قيد سوى تحفظ الصحابة... إلخ فمردود بأن من بقي من حفاظ الصحابة كان أكثر ممن مات؛ بدليل قول عمر رضي الله عنه للصديق: وإني أخاف أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، وكذلك زعمه أن كتابته مفرقا في العظام وغيرها كانت سببا في ضياع بعضه زعم باطل، ولو أن الاعتماد في حفظ القرآن على الأخذ من الصحف أو من قطع الحجارة أو العظام لجاز هذا الفرض، وليس الأمر كذلك، فالمعول عليه في القرآن هو التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمن سمع منه، والحفظ في الصدور، وأما الكتابة فإنما كانت لتأكيد المحفوظ في الصدور والوقوف على مرسوم الخط الذي هو توقيفي، ولا شك أن الشيء إذا توارد عليه الأمران الحفظ والكتابة يكون هذا أدعى إلى اليقين، والوثوق به، والاطمئنان إليه، وما دام أن المعول عليه في القرآن الحفظ، فاحتمال ضياع بعض المكتوب فيه لا يضيرنا في شيء، وإن كان هذا الاحتمال بعيدا جدّا؛ إذ كانوا يحافظون على المكتوب غاية الحفظ.
5- أما دعوى أن الحجاج زاد في القرآن، وأنقص منه فدعوى لا وجود لها إلا في خيال قائلها؛ إذ لم ينقل ذلك في أي تاريخ من التواريخ على كثرتها، وذكرها ما صح وما لم يصح، وكيف يفعل الحجاج أمرا إدّا كهذا له خطره، ويكثر المعارضون له، ولا يرتفع صوت في معارضته ومهما قيل في قسوة الحجاج فقد كان هناك من السلف الصالح من لا يخافون في الحق لومة لائم، ويرون موتهم في هذا السبيل استشهادا، ولو فرضنا أن للحجاج قوة أسكتت المؤمنين المخلصين في حياته؛ أفلا يرجعون إلى كتابهم ويرجعونه إلى حالته الأولى بعد وفاته ومثل هذا العمل من أوجب الواجبات وأعظم الفرائض على الأمة.
6- ما زعم من أن آية: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، من كلام أبي بكر إغراق في الجهل وإسراف في الوهم، والآية قد نزلت بعد أحد وحفظها كثير من الصحابة؛ ذلك أن المسلمين لما أصيبوا في أحد وأشيع بأن الرسول قد قتل اختل نظام الجيش، وفر الكثيرون، وقال بعضهم ليت لنا رسولا إلى عبد الله ابن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا ما بأيديهم من السلاح، وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم الأول فقال أنس بن النضر عم أنس ابن مالك: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم ألقى بنفسه في القتال حتى لقي ربه شهيدا فأنزل الله هذه الآية ليبين لهم خطأهم فيما فعلوا وقالوا، حينما علموا أن الرسول قد قتل، وأن النبوة لا تقتضي الخلود، وأنه كغيره من الأنبياء، يجوز عليه ما جاز عليهم، وكأن هذا الحاقد الجاهل قد التبس عليه الأمر بما جرى بعد وفاة الرسول، فقد أنكر عمر- في سورة الغضب، وغمرة الحزن- موت الرسول وتوعد من يقول ذلك وغفل عن هذه الآية، وما أن جاء الصديق ودخل على رسول الله وقبله وقال: طبت حيّا وميتا، حتى قال: على رسلك يا عمر، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ثم تلا الآية: {وَما مُحَمَّدٌ} إلخ، قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني قدماي. (رواه البخاري) إذ قد تحقق ما غاب عنه من أن موت الرسول حق لا شك فيه.
وأما آية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} فليست من كلام عمر، وإنما المروي أن عمر قال: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى بصيغة التمني، فنزلت الآية آمرة بالاتخاذ، فأين أسلوب التمني من الأمر وكون القرآن يوافق عمر في أشياء كان له فيها رأي واجتهاد لا يدل على أنه من كلام عمر وليس بعد الحق إلا الضلال فأنى يؤفكون.

الشبهة السابعة وجوابها:

روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
وروى بعضهم أنها كانت في صحيفة، وفي رواية في جليد، وأنهم اشتغلوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل الداجن فأكلها، قالوا: والقرآن اليوم ليس فيه ما يدل على خمس رضعات، فتكون الآية الدالة على هذا الحكم قد سقطت من القرآن.

والجواب:

أن هذه الرواية مهما صحت فهي أحادية لا يثبت بها قرآن؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، ثم هي أيضا لا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، وهو القرآن الذي بين أيدينا اليوم، وغاية ما تدل عليه هذه الرواية أنها خبر لا قرآن.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح، في معرض ذكر ما يقوي مذهب الجمهور القائلين بتحريم قليل الرضاع وكثيره: وأيضا فقول عائشة: عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فمات النبي صلى الله عليه وسلم، وهن مما يقرأ- لا ينهض للاحتجاج على الأصح من قول الأصوليين، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنا، ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه، والله أعلم، ومما يدل على أنه ليس قرآنا، وأنه كان تشريعا ثابتا بالسنة، ثم نسخ بالسنة اختلاف الرواية عنها في القدر المحرم، ففي رواية الموطأ عنها عشر رضعات، وعنها أيضا سبع رضعات، أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عنها، وعبد الرزاق أيضا، وجاء عنها أيضا: خمس رضعات، وهي ما يدل عليها رواية مسلم التي معنا، فاختلاف الرواية عنها يدل على أنه كان باجتهاد منها استندت فيه على ما ظهر لها من السنة، ولو كان قرآنا لما نقل عنها كل هذا الاختلاف.
وقال الإمام النووي في شرحه على مسلم: واعترض أصحاب مالك على الشافعية- يعني القائلين بأن لا حرمة إلا بالخمس- بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به عندكم، وعند محققي الأصوليين؛ لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد، وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت خبر الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح يوقف عن العمل به، وهذا إذا لم يجئ إلا بآحاد مع أن العادة مجيئه متواترا توجب ريبة، والله أعلم.
وهكذا يتبين لنا أن الأئمة على أنه ليس بقرآن قط، وأقصى درجاته أن يكون خبرا صحيحا، وأما رواية أكل الداجن فهي مردودة ومتهافتة، وليس أدل على هذا من أن القرآن كان محفوظا في الصدور، فضياع صحيفة منه- فرضا- لا يؤثر في ثبوت قرآنيته ما دامت تحفظه الكثرة الكاثرة من المسلمين، ثم إن القرآن كان مكتوبا في العسب، والرقاع والعظام وصحائف الحجارة، ومثل هذه الأشياء مما لا يتيسر في العادة للداجن أن تأكله، ولاسيما والرواية لم تعين لنا نوع هذا الداجن، أهو شاة أم حمام أم غيرهما.
فإن قال قائل: فكيف يتفق ما ذهب إليه من تأويل وما ثبت في الرواية: «كان فيما أنزل من القرآن».
قلت: المراد كان فيما أنزل من شرح القرآن وبيانه، ولا شك أن السنة شارحة للقرآن ومبينة له قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وأيضا فإن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ويكون الأمر من نسخ السنة بالسنة، ويكون قولها في الحديث: فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن، أي من حكم القرآن على أنه سنة لا قرآن، ولا شك أنهم كانوا يعنون بحفظ السنة أيضا، أو يكون المراد وهن فيما يعلم من أحكام القرآن.
2- وللحديث تأويل آخر، وهو أنه يحمل على أنه كان قرآنا ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وبعد النسخ لم يعد يسمى قرآنا ولا له حكمه، فإن قيل: هذا تأويل مقبول لولا ما يعارض من قولها: فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن. قلت: إن غرضها الإخبار بأن هذا النسخ لم يقع إلا قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعلم بالنسخ الكثيرون، وتركوا القراءة به، ولم يعلم البعض، فبقي هذا البعض على القراءة حتى تيقنوا فيما بعد نسخه فتركوا القراءة به؛ قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدّا، حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى.
وهذا الجواب إنما يتم على مذهب من يرى أن من أقسام النسخ ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، وهذا النوع قد أنكره بعض العلماء، قال الإمام السيوطي في الإتقان: حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا الضرب، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.
هذا ولعل الوجه الأول في الجواب أولى وأسلم.

.الشبهة الثامنة وجوابها:

ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» وفي رواية أخرى له أيضا نحو هذا وفي آخرها قال ابن عباس: فلا أدري من القرآن هو أم لا قال:
وسمعت ابن الزبير يقول: ذلك على المنبر.
وروي عن أنس عن أبي قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ}. ورواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس وفي آخره: فلا أدري أمن القرآن هو أم لا وفي رواية أخرى له عن أنس مثله وفي آخره: فلا أدري أشيء نزل أم شيء كان يقوله وروى عن أبي موسى الأشعري قصة وفيها: وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان... إلخ» كما روي في غير الصحيحين فظاهر هذه الروايات أنها كانت قرآنا، ولكن أنى هي في المصاحف المقروءة اليوم.

والجواب:

1- إن هذه الروايات كلها لا تدل على أن هذا قرآن؛ إذ القرآن لا يثبت إلا بالتواتر؛ وغاية ما تدل عليه أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وها أنت قد رأيت أن بعض الروايات قد جاءت مصرحة بأن ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، وأما الروايات التي فيها إيهام أن ذلك قرآنا؛ فإنما جاءت على صيغة الشك كما سمعت، وإذا كان الجزم في هذا لا يثبت القرآنية، فما بالك بالشك والتردّد وليس من ريب في أنه إذا تعارض اليقين والشك فالرجحان لليقين وعليه فتكون الروايات التي نسبت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من كلامه هي المعول عليها، وهذا الذي ذهبنا إليه هو ما سبق إليه أئمة العلم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح تعليقا على قول أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت: {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك، ولابد لكل أحد منه فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
2- إن هذا كان قرآنا ثم نسخت تلاوته لما أنزل الله: {أَلْهاكُمُ} ثم بقي حكم ذلك مقررا، قال الحافظ ابن حجر: وقد شرحه بعضهم على أن ذلك كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت: {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} فاستمرت تلاوتها، فكانت ناسخة لتلاوة ذلك، فأما الحكم والمعنى فيه فلم ينسخ؛ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ؛ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء، ومراد الحافظ بالأول أي أنه من كلام النبوة لا قرآنا، ولعل مما يشهد لهذا التأويل الثاني ما ورد في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم، وهو ما ذكرناه آنفا، وهذا الوجه لا يثبت إلا بتسليم كونه قرآنا في أول الأمر، ودون إثبات ذلك خرط القتاد؛ إذ القرآن لا يثبت بالآحاد كما هو رأي المحققين.
3- إن هذا من قبيل الأحاديث القدسية، التي هي من الله، وقد ورد في بعض الروايات التصريح بنسبته إلى الله بلفظ: إن الله يقول، ويشهد لذلك أن اسلوبه ومعناه شبيهان بأساليب ومعاني الأحاديث القدسية، إذ هي كثيرا ما تدور حول الزهد والفضائل، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في أثناء شرحه لهذا الحديث: ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في فضائل القرآن من حديث أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل عليه فيحدثنا فقال لنا ذات يوم: «إن الله قال: إني أنزلت المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم...» الحديث، وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية والله أعلم، وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما، وإن كان حكمه مستمرا.
والذي يترجح عندي أن يكون هذا من الأحاديث النبوية أو القدسية إذ ليس فيه شيء من إعجاز القرآن وسحره وجلاله وبلاغته.

.الشبهة التاسعة وجوابها:

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس حديثا طويلا، وفيه أن عمر قال على المنبر: إنّ الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها، ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة خطب الناس فكان مما قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.
وروى أبو عبيدة وغيره عن زر بن حبيش قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأيّن تعد سورة الأحزاب قال اثنتين وسبعين آية أو ثلاثا وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم قلت: وما آية الرجم قال: «إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم»، قالوا: فهذه الروايات تدل على أن القرآن سقطت منه هذه الآية.

وللجواب على ذلك نقول:

 إن رواية أبيّ بن كعب التي هي أصرح الروايات في القرآنية غير صحيحة إذ في سندها عاصم بن أبي النجود، وهو مضعف في الحديث، وإن كان إماما في القراءة وقد اختلف العلماء في توثيقه وتضعيفه، وإنما ضعف من جهة حفظه، لا من جهة عدالته، وقد قال فيه ابن علية: سيّئ الحفظ، وقيل اختلط في آخر عمره.
وأما الروايات عن عمر فهي صحيحة ولا شك، وليس من الصواب ولا البحث العلمي الصحيح رد روايات صحيحة بمجرد الهوى، ولكن الواجب أن نحملها على محاملها الصحيحة من غير تعسف، ولا تكلف، وأحب أن أنبه إلى أن رواية الصحيحين ليس فيها التصريح بقوله: «الشيخ والشيخة...» إلخ، ولا أنها كانت قرآنا، قال الحافظ في الفتح: وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله شيخ البخاري فيه، فقال بعد قوله: أو الاعتراف، وقد قرأناها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فسقط من رواية البخاري من قوله: «وقرأناها» إلى قوله: «البتة» ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدا فقد أخرج النسائي عن محمد بن منصور، عن سفيان كرواية جعفر، ثم قال: لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث: «الشيخ والشيخة» غير سفيان، وينبغي أن يكون وهم في ذلك قلت- أي الحافظ ابن حجر-: وقد أخرج الأئمة هذا الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر وصالح بن كيسان وعقيل، وغيرهم من الحفاظ، عن الزهري فلم يذكروها، وقد وقعت هذه الزيادة في هذا الحديث من رواية الموطأ عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب... إلخ ما قال، وهي الرواية التي أشرت إليها آنفا.
ومهما يكن من شيء فقد وردت آثار كثيرة في هذا المعنى، واستشهد الأصوليون بآية «الشيخ والشيخة... » إلخ؛ لما نسخ لفظه وبقي حكمه، وقد روى حديثها البخاري، ومسلم، ومالك، وأحمد، وأبو داود والنسائي، والترمذي، ولئن كانت روايات الصحيحين خلت من ذكر الآية، فقد جاءت في رواية غيرهما وإذ كان الحال على ما سمعت فما هي المحامل الصحيحة لهذا الحديث:
1- إن هذه الروايات آحادية فهي لا يثبت بها قرآن، ولا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، وغاية ما تدل عليه أنها حديث من أحاديث رسول الله، وسنة من سننه، ولا ينافي هذا قول عمر رضي الله عنه: وكان فيما أنزل عليه، فإن جبريل كما ذكرت- كان ينزل ببعض السنة كما ينزل بالقرآن، وتسميتها آية بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي. وكذلك قوله: فقرأناها ووعيناها، فالمراد به نرويها عن رسول الله فعبر عن الرواية بالقراءة، ومنه يقال: فلان يقرأ الحديث والسنن على فلان، ويكون قوله: والرجم في كتاب الله حق، أي في شرع الله وحكمه وتقديره، أو يكون المراد به الإشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فقد بينت السنة أن المراد جلد البكر، ورجم الثيب، ويؤيد هذا التأويل قول الفاروق رضي الله عنه: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في المصحف؛ إذ لا يقال زاد لما عرف أنه منه، لكنه لما كانت عنده سنة مؤكدة وحكما لازما حث على حفظها وقراءتها ودراستها، حتى لا يغفل الناس عنها، كما حث على حفظ آي القرآن، والذي يؤكد هذا التأويل ما رواه ابن حمدويه بسنده عن الحسن أن عمر قال هممت أن أدعو بنفر من المهاجرين والأنصار، معروفة أسماؤهم وأنسابهم، وأكتب شهادتهم في ناحية المصحف أي حاشيته، هذا ما شهد عليه عمر بن الخطاب وفلان وفلان يشهدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم في الزنا وإني خفت أن يجيء قوم من بعد يرون أن لا يجدونها في كتاب الله فيكفرون بها، وعمر رضي الله عنه ما كان يخشى في الحق لومة لائم فلو أنها كانت من القرآن لأثبتها، ولما خاف مقالة الناس، وكونه هم أن يكتبها في الحاشية لا في الصلب دليل على أنها ليست قرآنا، قال العلامة الآلوسي عند تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ}: إن الجلد نسخ في حق المحصن قطعا، لأن الحكم في حقه الرجم واختلف في الناسخ هل هي السنة القطعية، أو ما رواه عمر رضي الله عنه من الآية المنسوخة «الشيخ والشيخة» قال العلامة ابن الهمام: إن كون السنة القطعية أولى من كون ما ذكر من الآية، لعدم القطع بثبوتها قرآنا ثم نسخ تلاوتها، وإن ذكرها عمر وسكت الناس، فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه، وبتقدير حجيته، لا نقطع بأن المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذ ذاك حضورا، ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر ظني، ولهذا والله أعلم قال علي كرم الله وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ.
ويؤيد هذا التأويل أيضا ما أخرجه النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد ابن ثابت: ألا تكتبها في المصحف قال: لا، ألا ترى بأن الشابين الثيبين يرجمان، ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر: أنا أكفيكم؛ فقال يا رسول الله: أكتبت آية الرجم قال: «لا أستطيع».
وإن نظرة فاحصة في «الشيخ والشيخة... إلخ» لترينا أنها ليس عليها نور القرآن ومسحته، ولا فيها حكمته وإعجازه، وإن قول زيد رضي الله عنه: ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان، ما يشير إلى عدم بلوغها الغاية في الدقة والإحكام، كما هو الشأن في القرآن، وهذا يدل على فرق ما بين كلام الله وكلام الإنسان.
2- إن هذه الآية كانت قرآنا ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، قال الإمام النووي رحمه الله: أراد بآية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»، وهذا مما نسخ لفظه ليس له حكم القرآن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك، وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة على أن المنسوخ لا يكتب في المصحف، وبنحو ذلك قال ابن كثير في تفسيره، والحافظ ابن حجر في الفتح ولعل السر في نسخ لفظها عدم إحكام معناها، وأن العمل على غير الظاهر من عمومها فقد روى الحاكم عن عمر أنه قال: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم، هذا إلى ما في ظاهرها من تجرئة الشباب على الوقوع في الزنا؛ إذ الشأن في الكبير والكبيرة البعد من مواطن الإثم والفجور فاقتضت حكمة الله تنزيه الأسماع عن سماعها، وهذا الجواب الثاني إنما يتم بعد تسليم قرآنيتها، وقد خالف في هذا كثير من العلماء.

خاتمة

رواها القرطبي في تفسيره في الكلام على قول الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( روى بسنده إلى يحيى بن أكثم، قال كان للمأمون وهو أمير إذ ذاك مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال: اسلم حتى أفعل لك وأصنع، ووعده، فقال: ديني ودين آبائي، وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلماً، قال فتكلم على الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان وأنت تراني حسن الخط فعمدت غلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها إلى الوراقين فاشتريت مني، وعمدت غلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الوراقين فتصفحوها فلما وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي، قال يحيى بن أكثم، فحججت تلك السنة فلقيت سفيان ابن عيينة فذكرت له الخبر، فقال: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قال: قلت في موضع. قال: في قول تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: (بما استحفظوا من كتاب الله). فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل: (إن نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. اهـ. تم الجواب. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أعده/ فارس بن كريم بن علي العرابي الأزهري المصري
أستاذ القراءات وعلوم القرآن بالأزهر الشريف
ولمتابعة المحاضرة صوتيًا اضغط هنا
الاسمبريد إلكترونيرسالة