أبوالعلاء
المعري
قد
أثارت عبقرية المعري حسد الحاسدين فمنهم من زعم أنه قرمطي، ومنهم من زعم أنه درزي
وآخرون قالوا إنه ملحد ورووا أشعارا اصطنعوا بعضها وأساؤوا تأويل البعض الآخر، غير
أن من الأدباء والعلماء من وقفوا على حقيقة عقيدته وأثبتوا أن ما قيل من شعر يدل
على إلحاده وطعنه في الديانات إنما دس عليه وألحق بديوانه. وممن وقف على صدق نيته
وسلامة عقيدته الصاحب كمال الدين ابن العديم المتوفي سنة 660 هـ وأحد أعلام عصره،
فقد ألّف كتابا أسماه العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري
وفيه يقول عن حساد أبي العلاء “فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من
حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنة عيوبا وحسناته ذنوبا وعقله
حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرفوا كلامه عن
مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه.
ومن كانت فيه سجايا أبي العلاء المعري، وعمق رؤيته فلابد له من أن يلقى في زمنه كيداً وحسداً، وربما نسبوا إليه ما ليس له، من ذلك وضع الشعر الإلحادي على لسانه، أو نسبة ما يحكيه على لسان غيره إليه، ولو كانت حكاية الرأي المختلف عما يحكيه وارداً في القصيدة نفسها، فإنه ينسب جهلاً أو عمداً إليه، وهو إنما يحاول حكاية الرؤى السائدة في عصره، وقد اتهمه بعض المعاصرين أنه فاطمي، وواقع الأمر خلاف ذلك، فيأتي رجل بعلم عبد الله العلايلي لينسبه إلى غير مذهبه بحجج واهنة في كتابه «المعري ذلك المجهول»، ويتناسى أن أبا العلاء أرسل إليه داعي الدعاة الفاطمي هبة الله الشيرازي برسائل، فقد كان أبو العلاء يجادل داعي الدعاة ويحاوره في رسائل عدة ولا يستجيب له، ومات أبو العلاء وهو يراسل داعي الدعاة.
وكان
أبو العلاء نفسه كتب رداً على متهميه بالإلحاد أسماه «زجر النابح» أوضح فيه طرائقه
الشعرية في عرض آراء الفرق المختلفة، ومقاصده الأصلية من أشعاره. وكشف في كتاب آخر
أسماه «الفصول والغايات» عن إيمانه بعذاب القبر والبعث والنشور، وبكل ما له علاقة
بعقيدة الأمة فيما يتصل بالغيب.
فمن هو أبو العلاء المعري
نشأ
“أبو العلاء المعري” في أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة “تنوخ” العربية، التي يصل
نسبها إلى “يَعرُب بن قحطان” جدّ العرب العاربة.
ويصف
المؤرخون تلك القبيلة بأنها من أكثر قبائل العرب مناقب وحسبًا، وقد كان لهم دور
كبير في حروب المسلمين، وكان أبناؤها من أكثر جند الفتوحات الإسلامية عددًا،
وأشدهم بلاءً في قتال الفرس.
وُلد
أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان في بلدة “معرَّة النعمان” من أعمال “حلب”
بشمال “سوريا” في (27 من ربيع الأول 363هـ = 26 من ديسمبر 1973م).
ونشأ
في بيت علم وفضل ورياسة متصل المجد، فجدُّه “سليمان بن أحمد” كان قاضي “المعرَّة”،
وولي قضاء “حمص”، ووالده “عبد الله” كان شاعرًا، وقد تولى قضاء المعرَّة وحمص
خلفًا لأبيه بعد موته، أمَّا أخوه الأكبر محمد بن عبد الله (355 – 430هـ = 966 –
1039م) فقد كان شاعرًا مُجيدًا، وأخوه الأصغر “عبد الواحد بن عبد الله” (371 –
405هـ = 981 – 1014م) كان شاعرًا أيضًا.
محنة في محنة
وعندما
بلغ أبو العلاء الثالثة من عمره أُصيب بالجدري، وقد أدَّى ذلك إلى فقد بصره في
إحدى عينيه، وما لبث أن فقد عينه الأخرى بعد ذلك.
ولكن
هذا البلاء على قسوته، وتلك المحنة على شدتها لم تُوهِن عزيمته، ولم تفُتّ في
عضده، ولم تمنعه إعاقته عن طلب العلم، وتحدي تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها،
فصرف نفسه وهمته إلى طب العلم ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث.
فقرأ
القرآن على جماعة من الشيوخ، وسمع الحديث عن أبيه وجدِّه وأخيه الأكبر وجدَّتِه
“أم سلمة بنت الحسن بن إسحاق”، وعدد من الشيوخ، مثل: “أبي زكريا يحيى بن مسعر
المعري”، و”أبي الفرج عبد الصمد الضرير الحمصي”، و”أبي عمرو عثمان الطرسوسي”.
وتلقَّى
علوم اللغة والنحو على يد أبيه وعلى جماعة من اللغويين والنحاة بمعرَّة النعمان،
مثل: “أبي بكر بن مسعود النحوي”، وبعض أصحاب “ابن خالوية”.
وكان
لذكائه ونبوغه أكبر الأثر في تشجيع أبيه على إرساله إلى “حلب” – حيث يعيش أخواله –
ليتلقى العلم على عدد من علمائها، وهناك التقى بالنحوي “محمد بن عبد الله بن سعد”
الذي كان راوية لشعر “المتنبي”، ومن خلاله تعرَّف على شعر “المتنبي” وتوثقت علاقته
به.
ولكن
نَهَم “أبي العلاء” إلى العلم والمعرفة لم يقف به عند “حلب”، فانطلق إلى “طرابلس”
الشام؛ ليروى ظمأه من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصل إلى “أنطاكية”،
وتردد على خزائن كتبها ينهل منها ويحفظ ما فيها.
وقد
حباه الله تعالى حافظة قوية؛ فكان آية في الذكاء المفرط وقوة الحافظة، حتى إنه كان
يحفظ ما يُقرأ عليه مرّة واحدة، ويتلوه كأنه يحفظه من قبل، ويُروى أن بعض أهل حلب
سمعوا به وبذكائه وحفظه – على صغر سنه – فأرادوا أن يمتحنوه؛ فأخذ كل واحد منهم
ينشده بيتًا، وهو يرد عليه ببيت من حفظه على قافيته، حتى نفد كل ما يحفظونه من
أشعار، فاقترح عليهم أن ينشدوه أبياتًا ويجيبهم بأبيات من نظمه على قافيتها، فظل
كل واحد منهم ينشده، وهو يجيب حتى قطعهم جمعيًا.
بين اليأس والرجاء
عاد
“أبو العلاء” إلى “معرة النعمان” بعد أن قضى شطرًا من حياته في “الشام” يطلب العلم
على أعلامها، ويرتاد مكتباتها.
وما
لبث أبوه أن تُوفي، فامتحن أبو العلاء باليُتم، وهو ما يزال غلامًا في الرابعة
عشرة من عمره، فقال يرثي أباه:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل |
|
رماحُ المنايا قادراتٍ على الطعْنِ |
مضى طاهرَ الجثمانِ والنفسِ والكرى |
|
وسُهد المنى والجيب والذيل والرُّدْنِ |
نجم يسطع في سماء بغداد
واتصل
“أبو العلاء” في بغداد بخازن دار الكتب هناك “عبد السلام البصري”، وبدأ نجمه يلمع
بها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليه موجدة بعض
أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله زوابع من الفتن
والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليه الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى
اليأس أو الانزواء، وإنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حساده،
مؤكدًا إيمانه بالله تعالى ورضاه بقضائه، فيقول تارة:
غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ |
|
وبحمدِ خالقِها غريتُ |
وعبدتُ ربِّي ما استطعـ |
|
ـتُ، ومن بريته برِيتُ |
خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت |
|
أمةٌ يحسبونهم للنفادِ |
إنما ينقلون من دار أعما |
|
لٍ إلى دار شقوة أو رشادِ |
ولم يكن أبو العلاء بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصره؛ فنراه يشارك بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما يعبر عن ضيقه وتبرمه بفساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، ويكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، كما يسجل ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.
وقد
عرف له أهل بغداد فضله ومكانته؛ فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحُّون عليه في
قبولها، ولكنه كان يأبى متعففًا، ويردها متأنفًا، بالرغم من رقة حالة، وحاجته
الشديدة إلى المال، ويقول في ذلك:
لا أطلبُ الأرزاقَ والمو |
|
لى يفيضُ عليَّ رزقي |
إن أُعطَ بعضَ القوتِ أعـ |
|
ـلم أنَّ ذلك فوق حقي |
“أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر”.
خروجه من بغداد
ونذكر
لك من أخباره ما طبع نفسه وأثّر فيها ورغّبه في مفارقة بغداد، منها دخوله على
الشريف المرتضى وعثوره برجل، فقال له الرجل: من هذا الكلب! فقال أبو العلاء: الكلب
من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا! فهذا سفيه يتطاول على شيخ المعرةِ في مجلس وجهاء
بغداد وأبوالعلاء في وطنه شيء عظيم ومهيب ومحترم، ثم يصير غريبًا يتجهّمه أمثال
هذا ولا ينتصر له أحد، والغريب تكسره الكلمة.
لم
يطل المقام بأبي العلاء في بغداد طويلاً؛ إذ إنه دخل في خصومة مع “المرتضي العلوي”
أخي “الشريف الرضي”، بسبب تعصب “المعري” للمتنبي وتحامل المرتضي عليه؛ فقد كان أبو
العلاء في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع
عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا
قصيدته: “لك يا منازل في القلوب منازل” لكفاه فضلاً.
فغضب
المرتضي، وأمر به؛ فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه، والتفت لجلسائه
قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها
لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص |
|
فهي الشهادة لي بأنِّي كامل |
وفي
تلك الأثناء جاءت الأخبار إلى أبي العلاء بمرض أمه، فسارع بالرجوع إلى موطنه بعد
نحو عام ونصف العام من إقامته في بغداد.
العودة إلى الوطن
غادر
أبو العلاء بغداد في (24 من رمضان 400 هـ = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة
شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسه، ووطأة همومه
وأحزانه، وعندما وصل أبو العلاء إلى بلدته كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاره..
لقد تُوفِّيت أمه وهو في طريق عودته إليها.
ورثاها
أبو العلاء بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. يقول فيها:
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت |
|
أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا |
قضيت في منزلي برهةً |
|
سَتِير العيوب فقيد الحسد |
فلما مضى العمر إلا الأقل |
|
وهمَّ لروحي فراق الجسد |
بُعثت شفيعًا إلى صالح |
|
وذاك من القوم رأي فسد |
فيسمع منِّي سجع الحمام |
|
وأسمع منه زئير الأسد |
وكان
أبو العلاء يأخذ نفسه بالشدة، فلم يسع في طلب المال بقدر ما شغل نفسه بطلب العلم،
وهو يقول في ذلك: “وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن
آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه”.ويُعدُّ
أبو العلاء من أشهر النباتيين عبر التاريخ؛ فقد امتنع عن أكل اللحم والبيض واللبن،
واكتفى بتناول الفاكهة والبقول وغيرها مما تنبت الأرض.وقد اتخذ بعض أعدائه من ذلك
المسلك مدخلاً للطعن عليه وتجريحه وتسديد التهم إليه، ومحاولة تأويل ذلك بما يشكك
في دينه ويطعن في عقيدته.وهو يبرر ذلك برقة حاله وضيق ذات يده، وملاءمته لصحته
فيقول:
“ومما
حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيِّفٌ وعشرون دينارًا، فإذا أخذ
خادمي بعض ما يجب بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على
الألسن.. ولست أريد في رزقي زيادة ولا لسقمي عيادة”. وعندما كثر إلحاح أهل الفضل
والعلم على أبي العلاء في استزارته، وأبت به مروءته أن يرد طلبهم أو يقطع رجاءهم،
وهم المحبون له، العارفون لقدره ومنزلته، المعترفون بفضله ومكانته؛ فتح باب داره
لا يخرج منه إلى الناس، وإنما ليدخل إليه هؤلاء المريدون.فأصبح داره منارة للعلم
يؤمها الأدباء والعلماء، وطلاب العلم من كافة الأنحاء، فكان يقضي يومه بين التدريس
والإملاء، فإذا خلا بنفسه عبادة والتأمل والدعاء.وكما لم تلن الحياة لأبي العلاء
يومًا في حياته، فإنها أيضًا كانت قاسية عند النهاية؛ فقد اعتلّ شيخ المعرَّة
أيامًا ثلاثة، لم تبق من جسده الواهن النحيل إلا شبحًا يحتضر في خشوع وسكون، حتى
أسلم الروح في (3 من ربيع الأول 449هـ = 10 من مايو 1057م) عن عمر بلغ 86 عامًا
رحم
الله أبا العلاء المعري رحمة واسعة.