محنة الإمام مالك
رحمه الله
إن للإمام مالك منزلة رهيبة عند الناس تعدل بل تفوق منزلة الخلفاء
والأمراء والولاة وكان مجلس درسه تحدوه السكينة والوقار والمهابة، لا يجرؤ فيه أحد
على لغو ولا لغط، وإذا سأل سائل فأجابه لم يسأل عن الدليل ولا يطالب ببرهان، ولا
يملك أحد أن يراجعه في جواب، حتى دخل على مجلسه يومًا أحد طلاب العلم الوافدين
لسماع حديثه فوجد مجلسًا عامرًا بالهيبة والسكينة يعلوه الوقار فأنشد قائلاً:
يدع الجواب فلا يراجع هيبـة.... والسائلـون نواكس الأذقـان
أدب الوقار وعز سلطان التقى..... فهو المطاع وليس ذا سلطان
ولد مالك سنة 93 ومات سنة 179هـ أي إنه أدرك بهذا العمر الطويل المبارك الدولتين الإسلاميتين: الأموية والعباسية، والتي كانت كل واحدة منهما تحكم باسم الخلافة، بينما الواقع أن كلاهما كان ملكًا عضوضًا، يتوارثه الأبناء عن الآباء ويعضون عليه بالنواجذ، وهذه الطريقة في الحكم كان لها كثير من المعارضين والمخالفين، بعضهم بلسانه وقلمه والآخر بسيفه وترسه، وهذه المعارضة الأخيرة يعني المسلحة أخذت تتنامى شيئًا فشيئًا، حتى قامت المعارضة العباسية بقلب الدولة الأموية وإقامة دولتها مكانها، وذلك بعد ويلات وأهوال وشدائد ودماء مئات الآلاف التي تخضبت بها أرض خراسان والعراق والشام، وإن بقت الحجاز بمنأى عن هذه الأحداث الملتهبة فهي مستكينة وتبع لمن غلب منذ أحداث الحرة الأليمة سنة 61هـ، هذه الأحداث المتلاحقة جعلت العباسيين يشتدون مع معارضيهم حتى أنسوا الناس معنى العفو والصفح، فأدنى محاولة للخروج أو التلويح به أو حتى مجرد التلميح بالقول أو الفعل كان بنو العباس يقمعونها بمنتهى الشدة، ويأخذون البريء بالمذنب والقاعد بالساعي والبعيد بالقريب.
ومن أجل هذه المضار والمفاسد العظيمة المترتبة على الخروج على الحكام لم ير مالك الخروج عليهم وإن كانوا ظالمين وجائرين، وهو مع ذلك لم يكن مداهنًا لخليفة ولا أمير، أو يكتم العلم من أجلهم، بل يلتزم معهم الحياد، فهو وإن كان يلزم الجماعة والطاعة، لا يرى أن سياسة السلطان في عصره هي الحق الصراح الذي يتفق مع أحكام الإسلام وهدي القرآن، بل يرضى بالطاعة لأن فيها إصلاحًا نسبيًا، فكانت طريقته في الإصلاح حسب ما ارتآه ألا يناصر أحدًا عند الفتن، ورغم ذلك ورغم كره الإمام مالك للثورات والتحريض عليها إلا إنه لم يسلم من أذاها.
فبعد أن ارتفعت مكانة ومنزلة الإمام مالك عند الخاصة والعامة حتى جلس الخلفاء بين يديه وقرأ الأمراء له وأخذ الخلفاء بمشورته، وصدع الناس لما أمرهم به حسده على ذلك بعض أهل العلم ممن يؤثرون الدنيا ويسعون إليها، ووشوا به عند أمير المدينة جعفر بن سليمان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور وذلك سنة 147هـ، وكانت التهمة: أن مالكًا لا يرى أيمان البيعة للخلافة هذه بشيء، ولكن هل قال مالك ذلك حقًا؟
إن الذي أفتى به الإمام مالك رحمه الله أن يمين المكره لا تلزمه، وذلك عملاً بالحديث الموقوف عن ابن عباس: ((ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق)) وهو صحيح على ابن عباس ولا يصح رفعه وقد علقه البخاري في كتاب الطلاق، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ((ليس على مستكره طلاق)) ولم يكن سبب المحنة هو التحديث بهذا الحديث وحده، ولكن التحديث به وقت الفتن واستخدام الثائرين لذلك الحديث ولمكانة الإمام مالك العلمية لتحريض الناس على الخروج على الخليفة، فلما بلغ الأمر السلطة الحاكمة أمر أبو جعفر المنصور الإمام مالكًا ألا يحدث الناس بهذا الحديث وبهذه الفتوى ونهاه عن ذلك بشدة، فلم يستجب مالك رحمه الله لهذه الضغوط ولم يسكت، فقد كان يرى في السكوت عنه كتمانًا للعلم الذي استودعه إياه الله عز وجل، وقد نهى الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن كتمان العلم وتوعدا فاعله بالنار.
ولعلم أبي جعفر المنصور أن الإمام مالكًا لن يسكت عن نشر العلم فقد أمر واليه على المدينة جعفر بن سليمان أن يدس على مالك من يسأله عن هذا الحديث على رءوس الناس، وبالفعل أجاب مالك على المسألة وروى حديث ابن عباس، وعندها أرسل جعفر بن سليمان من قبض على الإمام مالك واحتج عليه بما رفع إليه عنه، فلم ينكر الإمام ولم يخش في الله عز وجل لومة لائم، فأمر جعفر بتجريده من ملابسه وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وعذبه عذابًا شديدًا، وأهانه وتعمد إسقاط هيبته ومنزلته بكل هذه الإساءات، ولكن الله عز وجل قد رفع قدر مالك بعد هذه المحنة وازداد رفعة بين العالمين وهذه ثمرة المحنة المحمودة فإنها ترفع صاحبها عند المؤمنين.
عندما علم أهل المدينة بما جرى للإمام مالك اشتد سخطهم على الوالي وتطاولوا عليه بل وعلى الخليفة نفسه، خاصة وأن مالكًا قد أصيب في هذه المحنة بعجز كبير في ذراعه بحيث لم يقدر بعدها على رفعها إلا بمساعدة ذراعه الأخرى وقد جلس في بيته، وشعر الخليفة أبو جعفر المنصور بمرارة ما فعل فأرسل إلى الإمام مالك يعتذر إليه ويتنصل مما فعله واليه، ولما جاء أبو جعفر إلى الحجاز حاجًا أرسل إلى مالك واجتمع معه وبالغ له في الاعتذار، وذلك كله لتطييب خاطر العامة أولاً ثم الإمام ثانيًا، وإلا فجميع ما وقع بعلمه وبأمره والله أعلم.
في هذه المحنة اختلفت النظرة إلى الحديث بين الإمام مالك العالم التقي الرباني قدوة الناس ومفتيهم ومرشدهم عند النوازل والحاجات والذي يمثل طبقة العلماء، وبين الحكام الذين يمثلون طبقة أولي الأمر التي لها حق السمع والطاعة، فرأى مالك في إذاعة الحديث نشرًا للعلم وتبصيرًا للناس، فلم يكتمه إرضاء للحكام ولا لأي سبب مهما كان.
ورأى الحكام في إذاعته تحريضًا على الفتنة والثورة لأن فيه بيانًا ببطلان بيعة الخليفة، وصادف ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن العلوي الملقب بالنفس الزكية على المنصور ومطالبته بالخلافة لنفسه وكان في المدينة وذلك سنة 146هـ.
ومهما يكن من مبررات الخليفة والتي ساقها من أجل منع الإمام من
التحديث، يبقى ثبات الإمام مالك وجهره بالحق وصبره على الضرب والتجريد والإهانة
علامة فارقة في حياة الإمام، إذ ضرب لعلماء الأمة كلهم مثالاً يحتذى به في الصبر
والثبات نسج على منواله الأئمة من بعده مثل الشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري ممن
ابتلوا في ذات الله، وصبروا على الحق وجهروا بالعلم ورفعهم الله عز وجل بذلك لأعلى
الدرجات بين العالمين.