محنة
الإمام النسائي
لا
يزال الجهل والتعصب أعدى أعداء العلم والعلماء؛ فهما نقيضان متضادان، كلاهما حرب
على الآخر، كلاهما في حالة صراع قائمة ومستمرة عبر التاريخ، فالعلم نور وحق وبيان
والعلماء أهله وحراسه ومناصروه، والجهل ظلم وظلام وباطل وبهتان والجهلاء أهله وحراسه
ومناصروه، الجهل داء والعلم دواء، الجهل سقام القلوب والنفوس والعقول والعلم
شفاؤها، لذلك فإن الله -عز وجل- قد أعلى من شأن العلم والعلماء وجعلهم ورثة
الأنبياء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى
المسلمين، وعلى مر التاريخ عانى علماء الأمة الربانيون من سفاهة الجهلاء وحماقة
المتعصبين الكثير من الويلات والمحن، بل إن بعضهم قد راح ضحية الجهل والتعصب،
ففقدت الأمة العديد من كبار الأئمة والعلماء بسبب ذلك، وعلى رأس هؤلاء العلماء
الذين راحوا ضحية الجهل والجهلاء الإمام (النسائي) صاحب السنن -رحمه الله.
لم
يتصوّر أحد أن تكون نهاية "شيخ الإسلام" بهذه الطريقة الهمجية على أيدي
متعصبي زمانه
وللإمام
النسائي قيمة كبرى ومكانة سامقة بين علماء الأمة؛ فهو من أكبر أئمة الحديث، حتى
أنّ السيوطي، رحمه الله، قد قال عنه: "النّسائي مجدّد المائة الثالثة"،
وله مسيرة علمية غاية في الأهمية، فضلاً عن إنتاجه المعرفي الوفير والمتعدد، الذي
أثرى به الحياة الثقافية والدينية في عصره، امتاز الإمام النسائي بأنّه شخص محبّ
ومتسامح، ولعلوّ مكانته؛ لم يكن أحد من أقرانه، أو من تلامذته، يتصوّر أن تكون
نهايته بهذه الطريقة الهمجية على أيدي متعصبي زمانه.
الإمام الحافظ شيخ الإسلام
هو
أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار النَّسائي، وكنيته "أبو عبد
الرحمن"، ولد العام 829م (215هـ)، في مدينة نَسا، من بلاد خراسان قديماً،
وتقع بين إيران وافغانستان حالياً، لا يعرف الكثير عن بداياته في مسقط رأسه، مما
يدلّ على أنه نشأ في أسرة متواضعة العلم والمكانة.
يضعه
الذهبي في الطبقة السابعة عشرة في كتابه "سير أعلام النبلاء" ويبدأ
سيرته بالقول "الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام..."، ويصفه ابن كثير
بقوله هو "محدّث، وقاضٍ، وأحد أئمة الحديث النبوي الشريف، صاحب السنن الصغرى
والكبرى، المعروفة بسنن النّسائي، طلب العلم والحديث وهو صغير، فرحل إلى خراسان
ليتعلم من قتيبة بن سعيد، والحجاز والعراق والشام والجزيرة العربية، ثم استوطن
مصر، وكان شافعي المذهب"، وقال عنه ابن الأثيـر: "كان شافعيّ المذهب، له
مناسك ألفها على مذهب الشافعي"، ولذلك ترجم له أصحاب طبقات الشافعية في كتبهم.
وكونه
شافعياً، لم يكن يمنعه من أن يخالف رأي الشافعي أحياناً، وغاية الأمر، كما يرى ابن
الأثير، ونظراً إلى هذه الحياة العلمية الحافلة؛ فإنه لم يزل في رفعة بين أهل
زمانه، حتى قال تلميذه، أبو بكر بن الحداد: "رضيت به حجة بيني وبين الله
تعالى".
الحياة السياسية والاجتماعية في زمنه
ولد
النسائي بعد تولّي عبد الله بن طاهر بن الحسين إمارة خراسان، وإقامته الدولة
الطاهرية، وقبل تولّي المعتصم محمد بن هارون الرشيد الخلافة بثلاثة أعوام، في لحظة
التنافس الحادّ والتعصّب المذموم الذي كان بين العرب والفرس، ما أجبر المعتصم على
اللجوء إلى العساكر التركية، ونقل مقرّ الحكم والخلافة إلى سامراء؛ هرباً من جحيم
العرب والفرس.
نشأة
النسائي في أجواء اضطراب سياسي جعلته ينصرف عن الخوض في الفتن ومجالسة السلاطين
وقد
عاصر الإمام النسائي عشرة من خلفاء بني العباس، فقد ولد في نهاية عصر المأمون،
وقُتل العام (915م/ 303هـ) في عصر المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن أحمد المعتضد.
إنّ
نشأة الإمام النسائي في أجواء اضطراب سياسي؛ حيث قتل ثلاثة من الخلفاء، وقام الجند
التركي بعزل ثلاثة خلفاء آخرين، كل هذه الأحداث جعلته ينصرف عن الخوض في الفتن،
ولا يحب مجالسة السلاطين، كما يؤكد الذهبي في "سير أعلام النبلاء"،
فانكبّ النسائي على طلب العلم وبذل فيه الكثير من الجهد والمشقة الكثير.
غادر
النسائي قريته نسا، وهو فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، طالباً العلم، في وقت
كان الترحال من أجل العلم مغامرة كبيرة، فقصد في أول أمره قتيبة بن سعيد في قرية
"غيلان"، وأقام عنده عاماً وثلاثة أشهر، كما ذكر الذهبي، كانت الأجواء
في بغداد غير مشجعة للعلماء، فلم يمكث فيها كثيراً، فتوجه إلى الحجاز؛ حيث تلقّى
كثيراً من علوم الحديث على أيدي علمائها، ثم إلى اليمن، وتنقل بين الثغور، ثم سافر
إلى الشام، ومكث فيها فترة من الزمن، التقى فيها العلماء، كما أشار إلى ذلك ابن
كثير.
في
هذه المدة؛ كان أحمد بن طولون حاكماً لمصر، وقد أقام فيها دولة مستقلة، وقضى على
الفتن وحركات العصيان، مما جعل مصر آمنة مطمئنة، فمال النسائي للسكنى فيها، واتخذ
لنفسه داراً في زقاق القناديل، وهو حي قديم من أحياء الفسطاط، إلى جوار مسجد عمرو
بن العاص، يسكنه صفوة القوم، هذا الحي كان معروفاً زمن النسائي، واندثر حالياً،
فاستقر النسائي في مصر، وطاب له المقام.
استشعر
النسائي خطورة تفشّي ظاهر التعصب الديني فارتحل إلى الشام وألّف هناك كتاب
"خصائص الإمام علي"
مثّل
الاستقرار الذي حققته الدولة الطولونية، في بادئ أمرها، دافعاً مهمّاً للنسائي؛
فأنتج الكثير من مؤلفاته في مصر، كما تمكّن من استخراج "السنن الصغرى"،
من كتابه "السنن الكبرى"، وقد روى ابن الأثير أنّ "أحد الأمراء،
على الأرجح أحمد بن طولون، سأل النسائي: هل كلّ ما في كتاب السنن صحيح؟ فقال: لا،
فقال له: أخرج لنا الصحيح منه، فعمد إلى ذلك فترة من الزمن، فأخرج كتابه العمدة
"السنن الصغرى"، وهو أحد الكتب الستة في جمع الأحاديث الصحيحة"،
ولم يزل النسائي مقيماً في مصر، يفد عليه طلاب العلم من كلّ حدب وصوب، حتى شهد
زوال الدولة الطولونية، ولم يغادر النسائي مصر إلا بعد عشرة أعوام من زوال دولة بن
طولون.
وقوع المأساة
تغيرت
الأحوال السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي، وهبّت رياح الفتن، فقد بدأ
الضعف يدبّ في أوصال الدولة العباسية، وانتشر الخلاف بين المكوّن العرقي للدولة
العباسية، سواء العربي أو الفارسي أو التركي، وأُهدرت حقوق البسطاء، وأصبحت الكلمة
للسيف بدلاً من العقل، وكثر بذخ الأمراء والصراع والتنافس على المناصب، كما تمّ
إحياء التعصب الديني، فظهرت في الشام رذيلة التهجم على الصحابي علي بن أبي طالب،
رضي الله عنه، انتصاراً لمنافسه التقليدي معاوية.
استشعر
الإمام النسائي خطورة تفشّي ظاهر التعصب الديني، فأقدم على الرحيل إلى الشام،
العام 914 ميلادي الموافق 302 هجرياً، وألّف هناك كتاب "الخصائص للإمام علي
بن أبي طالب"، فتجمّع له الغوغاء في المسجد الأموي، وسألوه لماذا لم يكتب في
فضائل معاوية؟، فأجابهم قائلاً: "ألا يرضى معاوية أن يكون رأساً برأس مع علي
حتى يفضل؟ فاستنكر الجمهور هذا الردّ، فألحّوا عليه، فأجابهم في شجاعة: "لا
أجد له إلا قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم؛ "لا أشبع الله بطنه"،
هنا ثار الغوغاء على الإمام النسائي، وظلوا يدفعونه في حضنيه، كما قال الدارقطني،
أو في خصيتيه، كما قال ابن خلقان، تُرك الإمام النسائي وهو الشيخ الكبير للغوغاء
يضربونه ويهينونه، غير آبهين لفضله أو حتى سنّه بعد أن بلغ 85 عاماً.
امتُهن
الرجل، الذي أفنى عمره يعلم الأمة مناسكها في كتابه الرائع كتاب
"المناسك"، حتى طردوه من المسجد، ثم تحامل على نفسه ورحل من الشام، فما
لبث أن مات في الرملة بفلسطين، متأثراً بضربات المتعصبين له في المسجد الأموي
بدمشق.
دفع
النسائي حياته في وجه التعصب والتطرف وهو من وصفه الدارقطني إنّه "أعلم من
مسلم"، وقال عنه الذهبي: "كان بحراً من العلوم، ولا نظير له في
علمه"، فكان قدره أن يموت على يد الجهال والدهماء والمتعصبين، الذين لا
يعرفون الحقّ من الباطل والعالم من الجاهل، كما هو دأبهم في كل زمان.