إمام قتله التعصب والتشنيع
الإمام الطبري
أولاً: التعريف به
الإمام العلم العلامة،
المجتهد المطلق، شيخ الإسلام، وإمام المفسرين ورائد مدرسة التفسير بالأثر، وكبير
مؤرخي الأمة الإسلامية، وأكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، صاحب التصانيف
البديعة؛ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، ولد سنة 224هـ بمدينة آمل
عاصمة إقليم طبرستان، وقد نذره أبوه لطلب العلم، فلما ترعرع وأتم حفظ القرآن وكان
حسن الصوت به ، سمح له أبوه بالسفر لطلب العلم، فطاف البلاد ودخل الشام ومصر وأكثر
الترحال من مكان لآخر، ولقي نبلاء الرجال وكبار العلماء، حتى صار من أفراد الدهر
علمًا وذكاءً وتصنيفًا، بل صار مثل البحر الزاخر بالعلوم المختلفة.
ثانياً: مصنفاته
يتربع الإمام ابن جرير
الطبري على قمة سلم التصنيف لعلماء الأمة بلا منازع، فهو أكثر علماء الإسلام
تصنيفًا، ويعتبر رائد علمي التفسير والتاريخ في الإسلام، وعلى منواله نسج من جاء
بعده، ولابن جرير مصنفات كثيرة زاخرة بالفوائد الجمة، أشهرها على الإطلاق كتاب
(التفسير المسمى بجامع البيان) الذي لم يصنف مثله، والذي لو ادعى عالم أن يصنف منه
عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل. والذي قال عنه أهل العلم:
لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّله لم يكن كثيرًا. وله كتاب تاريخ الملوك والرسل من
أنفس كتب التاريخ، والذي افتتح به مدرسة المؤرخين المسلمين وظل كل مؤرخي الإسلام
يسيرون على نهجه في التأريخ، وله كتب أخرى مثل «لطيف القول»، و«تاريخ الرجال»،
و«اختلاف علماء الأمصار»، و«القراءات والتنزيل والعدد»، وله كتاب «تهذيب الآثار»
وهو من عجائب كتبه، ولكنه مات قبل تمامه، وله كتاب «المحاضر والسجلات»، و«ترتيب
العلماء»، و«الفضائل»، و«الخفيف في الأحكام». ولابن جرير كتب هامة ونفيسة في باب
العقائد مثل كتاب «التبصير» وهو رسالة منه إلى أهل طبرستان يشرح فيها ما تقلده من أصول
الدين على عقيدة السلف الصالح خاصة في باب الصفات، وتفسيره المشهور مشحون في آيات
الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها، لا على النفي والتأويل.
كان له همة نادرة في
التأليف وصبر على الدرس والتحصيل والكتابة لا تكاد أن ترى مثله بين علماء الأمة،
حتى إنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وكان يستخير الله -عز
وجل- قبل أن يشرع في تأليف أي مصنف، ولم يكن في زمانه ولا بعده -على ما أظن- من له
مثل همته العالية في التحصيل والتأليف، حتى إنه قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ
العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا
مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فاختصر ذلك في نحو ثلاثة
آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوًا من ذلك، ثم أملاه على نحو
من قدر التاريخ.
ثناء أهل العلم عليه:
يعتبر الإمام الطبري
من كبار أئمة الإسلام وعلم من أعلام الدين، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته
وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من معاصريه، فقد كان حافظًا
لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا
بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال السلف من الصحابة
والتابعين، بصيرًا بأيام الناس وأخبارهم.
قال عنه الذهبي:
"كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع
والاختلاف، علاّمة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة"، وقال
عنه الإسفراييني الفقيه: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّل تفسير محمد بن
جرير لم يكن كثيرًا". وقال عنه قرينه ورفيقه ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة:
"ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير". وقال لأحد طلبة العلم
الذين لم يكتبوا عن ابن جرير بسبب المحنة التي تعرض لها قال له: "ليتك لم
تكتب عن كل من كتب عنهم وكتبت عن محمد بن جرير".
محنة الإمام الطبري:
الشهرة والرواج
والقبول عند العامة والخاصة من أكثر الأمور التي تجلب على صاحبها المتاعب، وتجعله
غرضاً لسهام قلوب ذوي النفوس المريضة بآفات القلوب، مثل الغيرة والحسد والغل إلى
آخر هذه الآفات القلبية التي تملأ الصدور بشحنات عالية من الكراهية والبغضاء دون
أسباب مقبولة، وصاحبنا الإمام الطبري كان واحداً ممن اجتمعت عليهم كلمة الأمة،
مقدماً عند أولي الأمر وأهل العلم وعموم الناس، أضف لذلك خصاله الشخصية من الزهد
والورع والترفع عن المناصب والفرار منها بكل سبيل حتى إنه رفض عشرات المرات منصب
القضاء في بغداد على ما في المنصب من بريق وسلط ، ورفض بعض الشبهات المغرية لقبول
العرض من إقامة العدل وإنصاف الناس وهكذا لأنه علم أنها مجرد حجج يُستدرج بها
العالم لقبول المناصب، ثم ما يلبث أن يجد ظروف المنصب ومتطلباته تضغط عليه،
فيتنازل شيئا فشيئا، فحسم الإمام المسألة من بداياتها ورفض كل المناصب كافة.
بداية المحنة:
كان المذهب الحنبلي هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلم العلم وفقًا للمذهب الحنبلي، حتى أصبح الحنابلة أغلبية بأرض العراق، وكان رأس الحنابلة بالعراق أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السنن، ولم يكن الرجل جديراً بهذا المنصب على الرغم من مواهبه وقدراته، ولكنه نال الزعامة الشعبية لدى الحنابلة؛ لشهرة أبيه الحافظ الكبير أبي دواد والذي يعد من تلاميذ الإمام أحمد المقربين له.
كانت بين أبي بكر وبين
الإمام ابن جرير الطبري مشاحنات وخلافات، وكلاهما لا ينصف الآخر، ووقع بينهما ما
يقع بين الأقران في كل عصر ومكان، ولو وقف الخلاف بين الرجلين عند هذا الحد لكان
الأمر هينًا يسيرًا؛ لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ
منحنىً جديدًا حتى تحول إلى محنة كبيرة للإمام ابن جرير الطبري.
تحول الخلاف الشخصي
بين الرجلين لحملة شعواء على الإمام الطبري زاد من أورها التعصب والجهل ودخول عوام
الناس في القضية، وهؤلاء أتباع كل ناعق، ووقود أي فتنة. ذلك أن الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود قد
دفعهم التعصب المذهبي المقيت لأن يشنعوا على ابن جرير ويشيعوا عليه الأكاذيب
والأباطيل الذي هو منها براء، بل هو من أبعد الناس عما اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة
قد أشاعوا على الإمام الطبري أنه من الروافض، ورموه بالتشيع والإمامية، وشعبوا
عليه بشدة، وصدقهم كثير ممن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان سبب هذا الرواج
وانتشار هذه الشناعات عدة أمور منها:
1-تأليف الإمام الطبري كتاباً في اختلاف العلماء والمذاهب
في الأمصار، وكان كتاباً ضخماً وحافلاً إلا أنه لم يذكر فيه المذهب الحنبلي، حيث
كان يرى أن الإمام أحمد معدود من جملة المحدثين وليس من جملة الفقهاء، ولا شك أن
هذا الصنيع منه فيه شيء من التحامل على الإمام أحمد، فمذهبه الفقهي معروف ومدون
وتلاميذه كانوا يملئون العراق، غير أن الإمام الطبري ربما كان معذوراً بأن المذاهب
الأخرى كانت أقدم وأكثر شهرةً ورواجاً في العالم الإسلامي، ومذهب الحنابلة كان
قاصراً على العراق فقط. المهم أن الحنابلة وجدوا في هذا الصنيع فرصةً للنيل من
الإمام الطبري والتشنيع عليه بكراهية الإمام أحمد، ثم بنوا على تلك المقدمة
الفاسدة، نتائج أشنع مفاداها: أنه مادام الطبري يكره الإمام أحمد، إذاً فالطبري
فاسد العقيدة، معتزلي أو شيعي رافضي!! وكانت هذه التهمة في هذا الوقت كفيلة
بالإطاحة بأكبر الرموز والعلماء حتى ولو كانوا من طراز الإمام الطبري.
2-من الأمور التي ساعدت على قبول العامة لفرية تشيع الطبري
ورفضه، قيام الإمام الطبري بجمع طرق حديث (غدير خم) وذلك في أربعة أجزاء باهرة تدل
على سعة علمه ومروياته، وهو الحديث الشهير "من كنت مولاه، فعلي مولاه…"،
وهو الحديث العمدة عند جميع طوائف الشيعة والذين يستدلون به على أحقية علي بن أبي
طالب -رضي الله عنه- وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شك فيه، ولكن لا دلالة
فيه على أحقية علي -رضي الله عنه- في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه
الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيام أبي بكر
بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلمية
وليس من باب الميل للتشيع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد
أقر أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحة حديث الغدير.
3-من الأمور التي ساعدت على تثبيت التهمة بالتشيع على
الإمام الطبري عند العامة وحواشي الناس وجود عالم من علماء الشيعة الإمامية يحمل
نفس الاسم ونفس الكنية وهو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان من كبار
الروافض، وقد صنف كتبًا كثيرة في ضلالات التشيع مثل كتاب (المسترشد في الإمامة)
و(الرواة عن أهل البيت)، وقد أدى هذا التشابه العجيب لخلط الناس بين الرجلين،
وشتان ما بينهما، ولم يكن هناك وسائل اتصال حديثة تمكن عموم الناس من معرفة الفرق
بين الرجلين، والعامة عقولهم في آذانهم، يتلقفون ما يأتي على هواهم دون تمييز
وتمحيص. ولقد أحسن الإمام الذهبي صنعًا عندما أورد ترجمة الطبري الرافضي مباشرة
خلف ترجمة جبل السنة ابن جرير الطبري، حتى لا يختلط الأمر على الناس، وللتمييز بين
الرجلين.
4-رفض الإمام الطبري لعقيدة " الإقعاد " التي
كان يروج لها أبو بكر بن أبي داود. ومفاد هذه العقيدة أن بعض الحنابلة ومنهم أبو
بكر يفسرون "المقام المحمود" بإجلاس المولى -جل وعلا- للنبي -صلى الله
عليه وسلم- على العرش يوم القيامة . وقد كتب الإمام الطبري جزءاً بيّن فيه بطلان
هذه العقيدة والحديث الذي ورد في شأنها، وكان أبو بكر عدو الطبري نفسه من رواة هذا
الحديث، مما زاد من كراهية أبي بكر وحزبه له. هذه الأمور وغيرها جعلت فصول المحنة تستحكم،
وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري، فبعد هجمة شرسة من الشناعات والأباطيل والأكاذيب
بحق هذا العالم الجليل قام الحنابلة بالتشويش على الطبري في مجالسه، وتنفير الطلبة
من مجالسه، ومع ذلك ظل الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى
قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس
ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته.
نقل الطبري دروسه إلى
بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر عوام الحنابلة بشدة،
فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلو والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت
الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إن كل
طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يرووا عنه
شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي دخل بغداد ولم يكتب
شيئًا عن الطبري، وعندما علم أستاذه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه (حسنيك):
"ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة
بحقه".
ظل الطبري حبيسًا في
بيته يعاني من الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد
جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض،
وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردهم شيء، لا مكانة علمية
ولا كبر سن، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة
محاصرين لبيت الطبري حتى حان وقت الرحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظل الطبري يردد
الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت
روحه الحياة.
وبلغت المحنة أوجها
ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر
وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج
الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن
يأتوا إلى بيته للصلاة عليه حتى إن الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً
ونهارًا.
رحل الطبري عن دنيانا
الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنة مقيتة، وإن
كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله -عز
وجل- ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفض، في حين باء
الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة.
أكبر درس من محنة
الإمام الطبري:
التعصب هو الذي قتل الأمة. فالتعصب يعتبر العائق الأساسي أمام كل أشكال
التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات وذلك لأنه يكرس أسباب الفرقة
ويهدم ما هو قائم من قواعد الاتفاق والوحدة ،والتعصب له أوجه كثيرة أبرزها التعصب
الديني وهو الأعلى صوتاً والأكثر ظهوراً والأعمق تأثيراً، ومنه التعصب للقبيلة وهو
ما كان عليه العرب في الجاهلية الأولى، ومازالت آثاره قائمة حتى اليوم، ومنها
التعصب للعنصر أو اللون أو اللسان أو الوطن أو المنهج الثقافي، ورغم أوجه التعصب
الكثيرة إلا أن هناك سمات عامة مشتركة بين المتعصبين بمثابة الميثاق العام للتعصب،
ومن أبرز هذه السمات:
1-العاطفية الشديدة: فالتعصب له علاقة لغوية بالعصبية
للقبيلة والعشيرة والزمرة والصحبة، ويعني التألب مع من يحب ضد من يناوئهم سواء
كانوا ظالمين أو مظلومين، وهذا يفيد أن المتعصب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفية
الشديدة والميل القوي نحو من يتعصب لهم، فهو لا يري إلا الحسنات والإيجابيات ولا
يري أبداً السلبيات والسيئات، أي أن المتعصب مصاب بعمى الألوان، فالمتعصب يصم
آذانه ويغلق عيونه ويسكر حواسه تجاه سماع الحق ومعرفة الصواب، فهو غارق في أهوائه
وعواطفه، وحتى لو استخدم عقله فإن النتاج الفكري لتشغيل عقله يبقى أسيراً لقيود
العاطفة وأغلال الهوى.
2-العجلة: فالمتعصب إنسان شديد العجلة، متسرعاً في إصدار
أحكامه واتخاذ قراراته، لا يستند في دعاواه لأي مستند شرعي أو عرفي، ولا يعتمد على
أدلة ولا براهين. فالمتعصب مع من يتعصب له على طول الخط، في الحب والكراهية
والإقدام والإحجام والصواب والخطأ، لا يسأل عن أدلة ولا براهين كما قال الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين
يندبهم***في النائبات على ما قال برهانا
3-الجمود: فالمتعصب إنسان ورث أفكاراً وأنماطاً وعادات
وقرارات ورؤى من الآباء والأسلاف والشيوخ والكبار، ورثها كابراً عن كابر، يراها من
المقدسات التي يجب التسليم بصحتها وحكمتها، ويثق فيها ثقة مطلقة، فإذا تعصب لقومه
مثلاً فإنه يحفظ كل مآثر هؤلاء القوم، ويصبحوا في نظره رمزاً للأمانة والصدق
والشجاعة وفضائل الأخلاق، ويرفض تماماً أي نقد ورأي مخالف لما توارثه عن قومه،
وكذلك الشيوخ كلامهم عند المتعصب يقدم على كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم،
بل يؤول كلام الله ورسوله؛ ليوافق كلام شيخه وإمامه حتى لا يقال عنده أخطأ الإمام
وأصاب غيره.
وعندما تقرأ ما أورده الحافظ ابن الأثير، والحافظ ابن كثير في خبر محنة الإمام الطبري تجده ملخصاً مختصراً لكل هذه السمات للمتعصب الجاهل.
ذكر ابن الأثير عن
الطبري فقال: "وفي هذه السنة –يقصد 310هـ-توفي محمد بن جرير الطبري صاحب
التاريخ ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلًا بداره؛ لأن العامة
-يعني الحنابلة- اجتمعت ومنعت من دفنه نهارًا وادعوا عليه الرفض، ثم ادعوا عليه
الإلحاد، وكان علي بن عيسى –الوزير- يقول : "والله لو سُئل هؤلاء عن معنى
الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه
".
وذكر ابن كثير في
ترجمة الطبري، فقال: "ودُفن في داره؛ لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا
من دفنه نهارًا، ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من هذا
ومن ذاك أيضًا، بل كان أحد أئمة الإسلام في العلم بكتاب الله وسُنة رسوله، وإنما
تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن أبي داود، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم
ويرميه بالرفض". وعبارة "تقلدوا ذلك عن أبي بكر بن أبي داود" تختصر
قصة التعصب: جهل وتقليد وعاطفة غير راشدة.