عندما يستخدم الدين لتخدير الشعوب
عندما
يحبب أحدهم الفقر والذل والخضوع للناس باسم
الدين، مصدرًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ المُسْلِمِينَ الجَنَّةَ قَبْلَ
أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ». وأمثاله من هذه
الأحاديث متناسيًا عمدا الأحاديث الأخرى في الباب كحديث النبي صلى الله عليه
وسلم الذي رواه البخاري والذي حَرَّضَنَا فيه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ تَكُونَ يَدُنَا
العُلْيَا لَا السُّفْلَى، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ
العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ» واستعاذة النبي
صلى الله عليه وسلم من الفقر بل قرنه بالكفر في حديث النسائي فيه عن مُسْلِمِ بْنِ
أَبِي بَكْرَةَ قَالَ:
كَانَ
أَبِي يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ " فَكُنْتُ أَقُولُهُنَّ فَقَالَ
أَبِي : أَيْ بُنَيَّ عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا ؟ قُلْتُ : عَنْكَ ، قَالَ : إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُنَّ فِي دُبُرِ
الصَّلَاةِ .
فيحبب
للناس الفقر كي يفسح المجال للأغنياء.
ويحبب
للناس الذل والخضوع والرضا بالظلم ليفسح المجال للأمراء وسدنة الأمور كما في حديث حذيفة الذي قال فيه "قُلْتُ:
كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ
وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ
وَأَطِعْ».
وينسى
بل يتناسى عمدًا آيات القرآن التي تنهى عن الظلم, ظلم النفس وظلم الغير والأحاديث
التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي تملأ كتب السنة, وينسى بل
يتناسى عمدًا وظفية النبي صلى الله عليه وسلم الأولى (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وهذا الذي تعلمه
الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم فقال ربعي بن عامر حينما سأله رستم من أنتم؟ وماذا جاء بكم؟ ما
جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن
ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام.
فقد
صبغت هذه العقيدة معظم التاريخ الإسلامي، حيث ظل الحكام يتحالفون مع من ينفي
الإرادة والاستطاعة عن الفعل الإنساني، كي يبقى البشر عبيدا للملوك الظالمين.
ودين
الإسلام من كل هذا براء.
ففي واقع الأمر إن مثل هذه التصاريح والفتاوى ليست منبتة
حديثة، بل لها جذور ممتدة في العقل الإسلامي الذي تشكل منذ عدة قرون، فهو يعبر عن عقيدة
"الجبر" التي أرسى عمادها الأول دولة بني أمية، عبر ترسيخ مفهوم "القضاء والقدر"، وهي
عقيدة تقول إن لا إرادة للإنسان في مقابل إرادة الله، وإن الإنسان كالريشة في مهب
الريح، لا فعل له على الحقيقة إلا الاستسلام لذلك القدر.
وقد
هدفت هذه العقيدة إلى إيجاد المسوغ الشرعي الذي يبرر الظلم الذي يمارس في ظل الحكم
الاستبدادي الوراثي، وذلك بالقول إن الملوك الظلمة هم عقاب من الله على الرعية،
وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم خلقته المشيئة الإلهية وقدرته
فيهم.
صبغت
هذه العقيدة معظم التاريخ الإسلامي، حيث ظل الحكام يتحالفون مع من ينفي الإرادة
والاستطاعة عن الفعل الإنساني، كي يبقى البشر عبيدا للملوك الظالمين تدعمهم
تأويلات دينية تؤكد مقولة إن "الملك بالدين يقوى، والدين بالملك يبقى".
ولا
تقتصر مثل هذه العقيدة على الدين الإسلامي، فعلى سبيل المثال هناك اعتقاد راسخ في
الديانة الهندوسية أنه لا يحق لأفراد طبقة المنبوذين الثورة على أوضاعهم
الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية المزرية، ذلك لأن تلك المعاناة ـ بحسب المعتقد
الهندوسي ـ قد فرضتها عليهم الآلهة، وهو الأمر الذي يجعل الطبقات الأخرى في
المجتمع تعاملهم بقسوة شديدة تقربا لتلك الآلهة، ويجعلهم هم أنفسهم يقبلون
بأوضاعهم التعيسة ولا يسعون لتغييرها خضوعا لأمر الآلهة.
وعلى
الرغم من أن الدستور الهندي قد ألغى وجود طبقة المنبوذين منذ سبعة عقود إلا أنه لم
يحصل تغيير جوهري في أوضاع تلك الطبقة وفي طبيعة الحياة التي يعيشها أفرادها وذلك
بسبب رسوخ تلك العقائد الدينية.
هذا
النوع من العقائد هو الذي يعطي مقولة كارل ماركس "الدين أفيون الشعوب"
صلاحيتها، إذ يتحول الدين إلى أداة لسلب إرادة البشر وتخديرهم من أجل القبول
بأوضاعهم البائسة وعدم السعي إلى تغييرها، وهو الدور الذي كانت تلعبه الكنيسة إبان
ظهور تلك المقولة، حيث كانت الأخيرة تتلاعب بالعقائد الدينية من أجل الحفاظ على
مصالح الإقطاعيين وحلفائهم من طبقة الكهنوت، وذهبت في هذا الطريق مذهبا جعلها تصدر
وتبيع صكوكا للغفران تضمن لأتباعها مقاعد في الجنة الموعودة بعد الموت.
ولكن،
من جانب آخر، فإن تاريخ الأديان يعطي صورة مختلفة تثبت أن مقولة كارل ماركس ليست
صالحة في كل الأحوال، حيث يمكن للدين أن يلعب أدوارا إيجابية في تبديل الأوضاع
واستنهاض إرادة الناس وهممهم من أجل الثورة على الظلم. وقد كانت رسالة الإسلام في
جوهرها تعبيرا حيا عن هذا المنحى الإيجابي الساعي لتغيير الأحوال الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية السائدة بأخرى أكثر عدالة وتحريرا للإنسان.
وفي
التجربة المسيحية كذلك، برز لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية الذي بلغ أوجه في
السبعينيات من القرن العشرين كدليل على إمكانية تحول الدين من أيديولوجيا تبريرية
تعمل على خدمة الفئات الحاكمة وتكريس الأمر الواقع إلى طاقة روحية لتحرير الجماهير
من الهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي، وبحيث يكون التوجه الإيماني توجها من
أجل العدالة.
ومن
ناحية أخرى، فإن التجربة الإسلامية تبين أن استمرار عقيدة الجبر لفترات طويلة في
التاريخ الإسلامي أدى لتغييب مدارس فكرية أخرى تقول بحرية الإنسان وقدرته على
تحقيق إرادته وصنع أفعاله، وتقف مدرسة المعتزلة في مقدمة هذه المدارس.
يقول
المعتزلة إن حرية الإنسان تتأسس على مفهوم العدل الإلهى الذي تشير جميع مقدماته
إلى القول بحرية الإنسان في صنع أفعاله، ويؤكدون اعتقادهم هذا بأنه لو كانت
الأفعال الإنسانية من صنع الله، لما كانت هناك جدوى من التكليف الإلهي للإنسان
وتنزيل الرسالات وابتعاث الأنبياء.
وبناء
على هذا التأسيس العقلاني للحرية الإنسانية، فإن المعتزلة يرون بأن التسليم بالجبر
الإلهى يؤدي إلى نتائج خطيرة، منها على سبيل المثال عدم شرعية وصلاحية دعوة الرسول
الكريم محمد للذين كفروا بالعدول عن موقفهم والإيمان برسالته وإقرار التوحيد
الإلهى، ذلك لأن الله ـ بحسب عقيدة الجبر ـ هو الذي جعلهم كفارا ومنعهم من
الإيمان، وهو ما يوحي بأن الذات الإلهية هي المسؤولة عن كفرهم.
وإذا
كانت عقيدة الجبر تنفي جدوى التكليف الإلهى للإنسان، فإنها أيضا تستبطن الدعوة
لعدم الحساب في الآخرة، وهو الأمر الذي يرفضه المعتزلة ويقولون إن وجود صفة العدل
الإلهي تتطلب ألا يحاسب الله أحدا إلا على الأفعال التي يقوم بها، وهو الأمر الذي
يؤكده تعالى بقوله: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت"، وكذلك قوله:
"وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".
إن
عدل الله يتبين من خلال خلقه القدرة في مخلوقاته حتى تصنع عوالمها بقدرتها، فتكون
مستحقة للثواب أو العقاب حسب ما تفعله من خير أو شر بإرادتها الحرة التي غرسها
فيها الله، ولولا ذلك ما كان هناك معنى للثواب أو العقاب، ذلك لأن الثواب كالعقاب
هو مكافأة لإنسان قادر على الفعل سلبا أو إيجابا.
شكلت
نظرة المعتزلة لقضية الحرية الإنسانية خطرا كبيرا على القائلين بالجبر من الفقهاء
ومن يناصرونهم من الملوك
وبالتالي فإن المعتزلة أكدوا على قدرة الإنسان على خلق جميع
أفعاله، وأنه يمتلك معطيات ذلك من حيث الإرادة الحرة التي توجهه إلى اختيار الفعل،
والقدرة المؤثرة التي تمكنه من إحداثه، ثم إنه بحكم تكوينه يمتلك الأدوات لذلك
كله، وعلى رأس تلك الأدوات يأتي العقل.
قد
شكلت نظرة المعتزلة لقضية الحرية الإنسانية خطرا كبيرا على القائلين بالجبر من
الفقهاء ومن يناصرونهم من الملوك، ذلك لأنها تضرب في صميم دعوتهم الهادفة
للاستسلام للمظالم وإقرار الأمر الواقع، مما جعل الأخيرين يشنون حربا لا هوادة
فيها على أهل هذا التيار بحيث أضحي الاعتزال وفكره ورموزه مرادفا للزندقة والكفر
في العالم الإسلامي.
ومن
هنا يمكننا القول بأن مثل هذه التصاريح والفتاوى تعبر عن حالة الجمود العامة التي
اعترت العقل المسلم منذ عدة قرون جراء سيطرة العقيدة الجبرية وما ارتبط بها لزاما
من استبداد سياسي يجد مصلحته الدائمة في هيمنة تلك العقيدة التي تبرر وجوده
واستمراره، وبالتالي تغييب مختلف المدارس الفكرية التي تقول بحرية الإرادة
الإنسانية وقدرة البشر على صنع أفعالهم وتغيير أوضاع مجتمعاتهم نحو المزيد من
الحرية والعدالة.
يبدأ
العلاج الحقيقي لحالة الجمود التي تعيشها المجتمعات الإسلامية وللفكر العاجز الذي
ينتج مثل هذه التصريحات البائسة، من إصلاح العقل الذي يجب أن يسترد مكانه الريادي
الذي استطاعت من خلاله الحضارة الإسلامية أن تبلغ أوج مظاهر تألقها في القرن
الرابع الهجري، مع الاستفادة من المنجزات التي توصلت لها الحضارة الإنسانية في
الفكر السياسي، وفي مقدمتها الدولة المدنية الديموقراطية.