-->
U3F1ZWV6ZTIxMjczMTA0OTU1X0FjdGl2YXRpb24yNDA5OTQ5MzAyNzQ=
recent
أخبار ساخنة

محنة الفيلسوف المسلم ابن رشد ومحاكمته وعصر من عصور الانحطاط الفكري

 




محنة ابن رشد الفيلسوف

عانت الفلسفة والفلاسفة من العديد من المِحَن والنّكبات عبر التاريخ، سواءً في أوروبا أو في العالم الإسلامي، حيث تعرض أعلامها للتكفير والاتهام بالزندقة والقتل أحياناً، كما كانت مؤلفاتهم عُرضة للحرق.

ويعد التاريخ الاسلامي حافلا بالحوادث العديدة لمحاكمات كان الفلاسفة والفلسفة ضحيتها، وكان فيها الفقهاء والحكام هما الجلادين والقضاة في آن معاً.

 وتعتبر محاكمة ابن رشد التي انعقدت سنة 1195 م في عهد الدولة الموحدية إحدى أشهر الحوادث التي حوكم فيها العقل والفكر، وإحدى النقاط المظلمة في التاريخ الاسلامي، كيف لا؟ ولم يكن الضحية فيها  سوى العلّامة والطبيب والفيلسوف الكبير ابن رشد (الحفيد)

ابن رشد المتوفى في مراكش عام 1198 ميلادية

فمن هو ابن رشد ؟

هو محمد بن أحمد بن محمد، وكنيته أبو الوليد ابن رشد المولود سنة 1126م والمتوفّى سنة 1198م، وقد سمي بابن رشد الحفيد تمييزا له عن ابن رشد الجد، وكانت عائلته من إحدى العائلات الأكثر وجاهة في الأندلس ولعبت أدوار مهمة في عهد الدولة المرابطية، ومن بعدها الدولة الموحدية.

درس ابن رشد الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري، و اشتهر بعلمه الواسع في الفقه والطب والفلسفة والفلك والفيزياء، وبتميزه في تفسير وشرح آثار الفيلسوف اليوناني أرسطو (384 ق.م – 322 ق. م )، الأمر الذي جعله يحظى بمكانة مهمة لدى الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المومن  (1138 – 1184 م) العاشق والمهتم بالعلوم، وبالمجال الثقافي عامة.

فعين طبيبا خاصا و قاضيا على اشبيلية ثم على قرطبة ، وأسندت إليه مهمة الفتوى والشورى في أمور الدين والدنيا، غير أن الأمر لم يدُم طويلا، فبعد وفاة الخليفة الذي كان يعلم ويجل قدره، وجد ابن رشد نفسه في مواجهة مع الخليفة الجديد يعقوب المنصور .. الذي نال من الفيلسوف الكبير.

محاكمة ابن رشد .. تعددت الأسباب والمحنة واحدة

تعددت القراءات والتأويلات الساعية إلى تبيان أسباب محاكمة ابن رشد، فهناك من يرجعها إلى أسباب دينية، والبعض الآخر يرجعها إلى عوامل سياسية، في حين يحصرها طرف ثالث في مبررات شخصية بينه وبين أعدائه.

رد ابن رشد على الغزالي

يرى الطرف الأول أن أفكار ابن رشد هي السبب في جره للمحاكمة، حيث تصدى في مؤلفاته وأفكاره للنزعة الأصولية في الدين وحاول الانتصار للعقل، واشتبك معرفيا مع أبي حامد الغزالي (1058 – 1111 م) زعيم المتكلمين و صاحب كتاب ” تهافت الفلاسفة” الذي أفتى بتكفير عدد من فلاسفة الاسلام.

انتقد ابن رشد أفكار حجّة الإسلام الغزالي الذي ارتكزت الدولة الموحدية على فكره السياسي منذ النشأة، ورد على صاحب كتاب ” احياء علوم الدين ” وذلك بعد مرور نصف قرن بمؤلّفهِ الشهير ” تهافت التهافت ّ”، الذي بين من خلاله أن لا تعارض بين الدين والفلسفة، مؤكدا على أولوية العقل عند تعارضه مع الشريعة.

و اعتبر ابن رشد أن دين الفلاسفة يؤسَّس على الايمان بوجود الله وعبادته ويسهم في معرفة خلقه معرفة واقعية، وأن ما ينفيه الغزالي هو مذهب يوصل إلى الله.

هل كان للسياسة أي تدخل؟

أما الطرف الثاني؛ فيرجع المحاكمة إلى أسباب سياسية، تمثلت في حنق الخليفة يعقوب المنصور ( 1160 م – 1199 م ) على ابن رشد بسبب الطريقة التي كان الفيسلوف يخاطب بها الخليفة، فأثناء المجالس التي كانت تجمع بينهما، يخاطب ابن رشد الخليفة بعبارة ” اسمع يا أخي “، بما يشير أن الخليفة لم يكن ذا معرفة بالعلوم وأنه كان يتدخل في النقاش بغير علم بصورة تثير حنق ابن رشد.

مواجهته للاستبداد

ويرجع بعض المفكرين المعاصرين أمثال المرحوم المغربي محمد عابد الجابري (1935 م – 2010 م) سبب نكبة ابن رشد إلى مؤلفه المعنون بـ “الضرورة في السياسة ”  وهو اختصار لمحاورة الجمهورية لأفلاطون ( 427 ق.م- 347 ق. م ) حيث يعادي فيه الفيلسوف الاستبداد، ويندد باستبداد الحكام في بلده وزمانه ويدين فيه الدولة كلها، وما آلت إليه من فساد واستبداد وتسلط للعسكر كناية على حكم الموحدين.

الحسد والبغضاء

وإضافة إلى الرأيين السابقين؛ برز رأي ثالث ينسب المحاكمة إلى البغض والمنافسة من طرف خصومه الذين حسدوه على ما وهبه الله من عقل وعلم وجاه ومكانة وطول مجاورة، ولعل المقصود به ملل أهل قرطبة من طول ولايته قضاء الجماعة فيها، حيث وليها قبله أبوه وجده.

وفي سنة 590 هجرية، أعد الحاقدون على ابن رشد ملفا تضمن اتهامات للفيلسوف بالكفر والزندقة والخروج عن الملة، وحملوه من قرطبة إلى مراكش لعرّضِه على أنظار الخليفة، إلا أن الأخير لم يستقبلهم بسبب اهتمامه بتجهيز الجيش للعبور نحو الأندلس من أجل الجهاد.

محنة ابن رشد ومحاكمته

من بين هذه المحن نقف عند محنة الفيلسوف القرطبي ابن رشد التي كانت محور مداخلة العديد من الباحثين تأليفا وتفصيلا إلى درجة تم وصفها بالجريمة التاريخية في حق المعرفة وفي حق فيلسوف جمع بين العقل والنقل ، ووفق بين ماضي وحاضر على أساس ما هو نقدي ومنطقي.

تعود تفاصيل هذه المحنة إلى جملة من الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية التي ميزت عصر إبن رشد ، وما أفرزته هذه الظروف من صراع خفي سرعان ما أصبح باديا للعيان بين رجال الدين وخدام بلاط الأمير ورجال العلم والفكر ، وكشف لنا هذا الصراع النقاب عن منحيين ، منحى يدعم الفلسفة والفلاسفة ، ومنحى يسعى إلى تدميرها وتكفير أصحابها وشن حرب هوجاء ضد المتعاطين إلى أصنافها ، وتحريمها وفقا لمراسيم وقوانين بمباركة دينية .

ما نتج عن هذا الصراع جعل فيلسوفنا يتعرض لمحاكمة مهيأة ومحكمة ، بحيث تألب عليه بعض الأشخاص واتهموه بالكفر والمروق عن الدين والخروج عن الملة ، فنسوا حسناته وركزوا على هفواته وأولوا معانيها وحرفوا أغراضها وقواعدها ، فحاولوا المرة تلو الأخرى إلحاق العقاب به ، فتم لهم الأمر بمحاكمته من طرف الأمير وحصر تهمه في :

1: الكفر والمروق عن الدين

2: الإلحاد

3: مخالفة عقائد المسلمين

ونتاجا لهذه التهم الموجهة لفيلسوفنا حكم عليه بالنفي إلى قرية يهودية لا يسكنها غير اليهود تسمى " أليسانة " وهي إشارة من اعداءه إلى أنه لا أصل له في بلاد الأندلس ولا علاقة له بالملة والإسلام.

تتعدد إذن أسباب محاكمة ابن رشد بين ما هو سياسي وما هو ديني ، فهناك من أرجعها إلى صراع خفي بين ابن رشد والأمير ، وهناك من حصرها في أعداء ابن رشد الذين كانوا يتربصون به من كل جانب وخاصة رجال الدين وخدام البلاط ، ومهما كانت الأسباب فمحنة ابن رشد كانت من نوع خاص فهي محاكمة للفكر واستخدام العقل بسلاح الدين والعقائد ، وقد قال عنها ابن رشد واصفا وقعها :" أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة وقد حانت صلاة العصر ، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه "

وبعد هذه النكبة والمحنة في الوقت ذاته تم الهجوم وبشكل عدائي على كل من له صلة بالفلسفة ، فأحرقت كتب ابن رشد واستمرت المحنة التي هي محنة عقل سمي فيما بعد بالعقل العربي ، وما حدث مع ابن رشد لا يثير استغرابنا ، فتاريخ الفلسفة مليء بأحداث ووقائع مشابهة.

ولكن هل كان هذا التضليل لعقول العامة، وجعلها تتنكر لكل ما هو في صالحها، هو من فعلِها؟ نحن نعرف أن العامة لا تقرأ كتب الفلسفة ناهيك عن تدبر كُتب المنطق، فمن أين أتى التحريض على كل فكر مستنير؟ إنه يأتي من السلطات التي تعرف عن طريق "خبرائها" خطر نشر ثقافة لجوء الإنسان إلى العقل والبرهان في تدبير شؤون حياته السياسية والمعاشية والفكرية، بدل اللجوء إلى الشعوذة والتفسيرات الخرافية، وخطر فلسفة تفضح التسلط السياسي والاضطهاد الاجتماعي.

إلى جانب السلطة، يأتي التحريض أيضاً من قصار القامات الذين لا يستطيعون مطاولة العلماء المجتهدين، لأن مضمار العلم ليس من شأنهم إلا بمقدار ما يتلقّطون منه، خدمة لمطامعهم الشخصية. كل هذا الجمع- أهل زماننا كما يقال - يرمون العالِم بكل علم عقلي أو تجريبي بالبدع والزندقة، "ويشترك في هذا الأمر منهم رؤساؤهم ودهماؤهم وعلماؤهم"، كما يقول أحد كتّاب الأندلس المتأخرين.

الاسمبريد إلكترونيرسالة